14. عكرمة بن أبي جهل
عكرمة بن أبي جهل
"سيأتيكم عكرمة مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه؛ فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت" [محمد رسول الله]
"مرحبا بالراكب المهاجر" [من تحية النبي لعكرمة]
كان في أواخر العقد الثالث من عمره، يوم صدع (١) نبي الرحمة بدعوة الهدى والحق.
وكان من أكرم قريش حسبا، وأكثرهم مالا وأعزهم نسبا.
وكان جديرا به أن يسلم كما أسلم نظراؤه، من أمثال سعد بن أبي وقاص (٢)، ومصعب بن عمير، وغيرهما من أبناء البيوتات المرموقة في مكة لولا أبوه.
فمن يكون هذا الأب يا ترى؟.
إنه جبار مكة الأكبر، وزعيم الشرك الأول، وصاحب النكال (٣) الذي امتحن الله ببطشه إيمان المؤمنين فتبتوا …
واختبر بكيده صدق الموقنين فصدقوا …
إنه أبو جهل (٤)، وكفى …
هذا أبوه، أما هو فعكرمة بن أبي جهل المخزومي، أحد صناديد قريش المعدودين وأبرز فرسانها المرموقين.
* * *
وجد عكرمة بن أبي جهل نفسه مدفوعا بحكم زعامة أبيه إلى مناوأة (٥) محمد ؛ فعادى الرسول ﷺ أشد العداء، وآذى أصحابه أفدح الإيذاء، وصب على الإسلام والمسلمين من النكال ما قرت به عين أبيه (٦).
ولما قاد أبوه معركة الشرك يوم "بدر"، وأقسم باللات والعزى (٧) ألا يعود إلى مكة إلا إذا هزم محمدا، نزل ببدر وأقام عليها ثلاثا ينحر الجزور، ويشرب الخمور، وتعرف له القيان بالمعازف …
لما قاد أبو جهل هذه المعركة كان ابنه عكرمة عضده الذي يعتمد عليه، ويده التي يبطش بها.
ولكن اللات والعزى لم يلبيا نداء أبي جهل لأنهما لا يسمعان …
ولم ينصراه في معركته لأنهما عاجزان …
فخر صريعا دون "بدر"، ورآه ابنه عكرمة بعينيه، ورماح المسلمين تنهل (٨) من دمه، وسمعه بأذنيه وهو يطلق آخر صرخة انفرجت عنها شفتاه.
* * *
عاد عكرمة إلى مكة بعد أن خلف جثة سيد قريش في "بدر"؛ فقد أعجزته الهزيمة عن أن يظفر بها ليدفنها في مكة، وأرغمه الفرار على تركها
للمسلمين؛ فألقوها في "القليب" (٩) مع العشرات من قتلى المشركين، وأهالوا عليها الرمال.
* * *
ومنذ ذلك اليوم أصبح لعكرمة بن أبي جهل مع الإسلام شأن آخر …
فقد كان يعاديه في بادي الأمر حمية لأبيه؛ فأصبح يعاديه اليوم ثأرا له.
ومن هنا انبرى عكرمة ونفر ممن قتل آباؤهم في "بدر"، يؤرثون (١٠) نار العداوة في صدور المشركين على محمد ﷺ، ويضرمون جزوة (١١) الثأر في قلوب الموتورين (١٢) من قريش، حتى كانت وقعة (أحد).
* * *
خرج عكرمة بن أبي جهل إلى "أحد"، وأخرج معه زوجه أم حكيم لتقف مع النسوة الموتورات في "بدر" وراء الصفوف، وتضرب معهن على الدفوف تحريضا لقريش على القتال، وتثبيتا لفرسانها إذا حدثتهم أنفسهم بالفرار.
* * *
وجعلت قريش على ميمنة فرسانها خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، وأبلى الفارسان المشركان في ذلك اليوم بلاء رجح كفة قريش على محمد وأصحابه، وحقق للمشركين النصر الكبير؛ مما جعل أبا سفيان يقول:
هذا بيوم بدر.
* * *
وفي يوم "الخندق"، حاصر المشركون المدينة أياما طويلة فنفد صبر
عكرمة بن أبي جهل، وضاق ذرعا (١٣) بالحصار، فنظر إلى مكان ضيق من الخندق، وأقحم (١٤) جواده فيه فاجتازه، ثم اجتازه وراءه بضعة نفر في أجرإ مغامرة ذهب ضحيتها عمرو بن عبد ود العامري (١٥) …
أما هو فلم ينجه إلا الفرار.
* * *
وفي يوم الفتح رأت قريش أن لا قبل لها بمحمد وأصحابه، فأزمعت (١٦) على أن تخلي له السبيل إلى مكة، وقد أعانها على اتخاذ قرارها هذا ما عرفته من أن الرسول أمر قواده ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم من أهل مكة.
* * *
لكن عكرمة بن أبي جهل ونفرا معه خرجوا على إجماع قريش، وتصدوا للجيش الكبير، فهزمهم خالد بن الوليد في معركة صغيرة قتل فيها من قتل منهم، ولاذ بالفرار من أمكنه الفرار، وكان في جملة الفارين عكرمة بن أبي جهل.
* * *
عند ذلك أسقط (١٧) في يد عكرمة …
فمكة نبت (١٨) به بعد أن خضعت للمسلمين.
والرسول صلوات الله عليه عفا عما سلف من قريش تجاهه …
لكنه استثنى منهم نفرا سماهم، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة.
وكان في طليعة هؤلاء النفر عكرمة بن أبي جهل؛ لذا تسلل متخفيا من مكة، ويمم وجهه شطر (١٩) "اليمن"، إذ لم يكن له ملاذ (٢٠) إلا هناك.
* * *
عند ذلك مضت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل، وهند بنت عتبة (٢١) إلى منزل رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ومعهما عشر نسوة ليبايعن النبي ﵇، فدخلن عليه، وعنده اثنتان من أزواجه وابنته فاطمة (٢٢) ونساء من نساء بني عبد المطلب، فتكلمت هند وهي متنقبة (٢٣) وقالت:
يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، وإني لأسألك أن تمسني رحمك بخير (٢٤)، فإني امرأة مؤمنة مصدقة …
ثم كشفت عن وجهها وقالت:
هند بنت عتبة يا رسول الله.
فقال لها الرسول: (مرحبا بك).
فقالت: والله يا رسول الله ما كان على وجه الأرض بيت أحب إلي أن يذل من بيتك، ولقد أصبحت وما على وجه الأرض بيت أحب إلي أن يعز من بيتك.
فقال رسول الله ﷺ: (وزيادة أيضا).
ثم قامت أم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل فأسلمت وقالت:
يا رسول الله، قد هرب منك عكرمة إلى "اليمن" خوفا من أن تقتله فأمنه أمنك الله، فقال ﵇:
(هو آمن).
فخرجت من ساعتها في طلبه، ومعها غلام لها رومي، فلما أوغلا في الطريق راودها الغلام عن نفسها، فجعلت تمنيه وتماطله حتى قدمت على حي من العرب فاستعانتهم عليه فأوثقوه وتركوه عندهم.
ومضت هي إلى سبيلها حتى أدركت عكرمة عند ساحل البحر في منطقة "تهامة" (٢٥)، وهو يفاوض نوتيا (٢٦) مسلما على نقله، والنوتي يقول له:
أخلص حتى أنقلك.
فقال له عكرمة: وكيف أخلص؟.
قال: تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فقال عكرمة: ما هربت إلا من هذا.
وفيما هما كذلك إذ أقبلت أم حكيم على عكرمة وقالت:
يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس، وأبر الناس، وخير الناس …
من عند محمد بن عبد الله …
وقد استأمنت لك منه فأمنك فلا تهلك نفسك، فقال:
أنت كلمته؟.
قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك …
وما زالت به تؤمنه وتطمئنه حتى عاد معها.
ثم حدثته حديث غلامهما الرومي فمر به وقتله قبل أن يسلم.
وفيما هما في منزل نزلا به في الطريق أراد عكرمة أن يخلو بزوجه، فأبت ذلك أشد الإباء وقالت:
إني مسلمة وأنت مشرك …
فتملكه العجب وقال: إن أمرا يحول دونك ودون الخلوة بي لأمر كبير.
فلما دنا عكرمة من مكة، قال الرسول لأصحابه:
(سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه؛ فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت).
وما هو إلا قليل حتى وصل عكرمة وزوجه إلى حيث يجلس رسول الله ﷺ، فلما رآه النبي صلوات الله عليه وثب إليه من غير رداء (٢٧) فرحا به … ولما جلس رسول الله ﷺ وقف عكرمة بين يديه وقال:
يا محمد، إن أم حكيم أخبرتني أنك أمنتني …
فقال النبي: (صدقت، فأنت آمن).
فقال عكرمة: إلام تدعو يا محمد؟.
قال: (أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني عبد الله ورسوله، وأن تقيم الصلاة، وأن تؤتي الزكاة … ) حتى عد أركان الإسلام كلها.
فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى حق، وما أمرت إلا بخير.
ثم أردف يقول:
قد كنت فينا - والله - قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا …
ثم بسط يده وقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله، ثم قال:
يا رسول الله علمني خير شيء أقوله.
فقال: (تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله).
فقال عكرمة: ثم ماذا؟.
قال رسول الله ﷺ: (تقول: أشهد الله، وأشهد من حضر أني مسلم مجاهد مهاجر) … فقال عكرمة ذلك.
عند هذا قال له الرسول صلوات الله عليه: (اليوم لا تسألني شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتك إياه)، فقال عكرمة:
إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسير أوضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك أو غيبتك.
فقال الرسول: (اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد به إطفاء نورك، واغفر له ما نال من عرضي في وجهي أو أنا غائب عنه).
فتهلل وجه عكرمة بشرا وقال:
أما والله، يا رسول الله، لا أدع نفقة أنفقتها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالا قاتلته صدا عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله.
* * *
ومنذ ذلك اليوم انضم إلى موكب الدعوة فارس باسل في ساحات القتال، عباد قوام قراء لكتاب الله في المساجد؛ فقد كان يضع المصحف على وجهه ويقول:
كتاب ربي … كلام ربي … وهو يبكي من خشية الله.
* * *
بر عكرمة بما قطعه للرسول ﷺ من عهد، فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا وخاضها معهم، ولا خرجوا في بعث إلا كان طليعتهم.
وفي يوم "اليرموك" أقبل عكرمه على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم القائظ.
ولما اشتد الكرب على المسلمين في أحد المواقف، نزل عن جواده وكسر غمد سيفه، وأوغل (٢٨) في صفوف الروم، فبادر إليه خالد بن الوليد وقال:
لا تفعل يا عكرمة؛ فإن قتلك سيكون شديدا على المسلمين.
فقال: إليك عني (٢٩) يا خالد … فلقد كان لك مع رسول الله ﷺ سابقة، أما أنا وأبي فقد كنا من أشد الناس على رسول الله، فدعني أكفر عما سلف مني، ثم قال:
لقد قاتلت رسول الله ﷺ في مواطن كثيرة وأفر من الروم اليوم؟! …
إن هذا لن يكون أبدا.
ثم نادى في المسلمين:
من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن
الأزور في أربعمائة من المسلمين، فقاتلوا دون فسطاط (٣٠) خالد ﵁ أشد القتال، وذادوا عنه أكرم الذود.
ولما انجلت معركة اليرموك عن ذلك النصر المؤزر (٣١) للمسلمين؛ كان يتمدد على أرض "اليرموك" ثلاثة مجاهدين أثخنتهم (٣٢) الجراح هم:
الحارث بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة (٣٣)، وعكرمة بن أبي جهل، فدعا الحارث بماء ليشربه فلما قدم له نظر إليه عكرمة … فقال:
ادفعوه إليه …
فلما قربوه منه نظر إليه عياش … فقال:
ادفعوه إليه.
فلما دنوا من عياش وجدوه قد قضى نحبه (٣٤) …
فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد لحقا به.
﵃ أجمعين.
وسقاهم من حوض الكوثر شربة لا يظمأون بعدها …
وحباهم خضراء الفردوس يرتعون فيها أبدا … (*).
_________
(١) صدع: جهر.
(٢) سعد بن أبي وقاص: انظره ص ٢٨١.
(٣) النكال: العذاب الشديد.
(٤) أبو جهل: انظر مصرع أبي جهل في كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف.
(٥) المناوأة: المعاداة.
(٦) قرت عين الرجل: يعني أنه سر وفرح.
(٧) اللات والعزى: صنمان لقريش.
(٨) تنهل من دمه: تشرب من دمه.
(٩) القليب: بئر ألقيت فيها جثث المشركين من قتلى بدر.
(١٠) يؤرثون: يوقدون.
(١١) الجذوة: الجمرة الملتهبة.
(١٢) الموتور: من قتل له قتيل فلم يأخذ بثأره.
(١٣) ضاق ذرعا بالحصار: لم يستطع الصبر عليه وأصابه منه ضيق.
(١٤) أقحم جواده: أدخله بعنف.
(١٥) عمرو بن عبد ود العامري القرشي: من الفرسان المشهورين في الجاهلية، وبعد أن اقتحم الخندق بارزه علي بن أبي طالب وقتله.
(١٦) أزمعت: قررت.
(١٧) أسقط في يد عكرمة: تحير وندم.
(١٨) نبت به: لم يبق له فيها قرار.
(١٩) يمم وجهه شطر اليمن: اتجه نحو اليمن.
(٢٠) ملاذ: ملجأ.
(٢١) هند بنت عتبة: زوج أبي سفيان، وهي أم معاوية ﵁.
(٢٢) فاطمة الزهراء: انظرها في كتاب "صور من حياة الصحابيات" للمؤلف.
(٢٣) متنقبة: أي واضعة النقاب على وجهها خجلا من رسول الله ﷺ لتمثيلها بعمه حمزة بن عبد المطلب يوم أحد.
(٢٤) أن تمسني رحمك بخير: أن تحسن معاملتي لما بيني وبينك من قرابة.
(٢٥) تهامة: هو السهل الساحلي للجزيرة العربية المحاذي للبحر الأحمر، بينه وبين سلسلة جبال السراة.
(٢٦) النوتي: البحار.
(٢٧) الرداء: ما يلبس أعلى الإزار.
(٢٨) أوغل في صفوف الروم: دخل بعيدا في صفوفهم.
(٢٩) إليك عني: دعني واتركني.
(٣٠) الفسطاط: بيت من شعر، والمراد به مكان قيادة الجيش.
(٣١) النصر المؤزر: النصر القوي العظيم.
(٣٢) أثخنتهم الجراح: أضعفتهم وأوهنت قواهم.
(٣٣) عياش بن أبي ربيعة: واسمه عمرو بن المغيرة المخزومي القرشي ابن عم خالد بن الوليد وكان من السابقين الأولين وهاجر الهجرتين إلا أن أبا جهل خدعه فأعاده إلى مكة وحبسه ثم أنقذ من حبسه.
(٣٤) قضى نحبه: فارق الحياة.
مختارات