فقه حقيقة العبودية (١٥)
ولقد أدرك العقل البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية والكون كله، وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه.
إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه، وهي الحركة الأصيلة، محركة ظاهره إنما هي تعبير عن حركة روحه، وهي حركة العبودية لله، والتي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الاسراء: ٤٤].
وقوله سبحانه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (٦)} [الرحمن: ٦].
وتأمل هذه الحقيقة، وتأمل الكون في عبادته وتسبيحه، مما يمنح القلب البشري متاعاً عجيباً، وأنساً ولذة، وفرحاً وسروراً، وهو يشعر بكل ما حوله حياً يعاطفه، ويتجه معه إلى خالقه، وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها، وهي تدب فيها جميعاً، وتحيلها إخواناً له ورفقاء، يؤدون وظائفهم معاً، ويعبدون ربهم معاً.
إن كل من في السماوات والأرض متوجه إلى ربه بالعبادة، يسبح الله في كل حين: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)} [الحديد: ١].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّي لأعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أبْعَثَ، إِنِّي لأعْرِفُهُ الآنَ» أخرجه مسلم (١).
فسبحان من له العزة الغالبة، والحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والقدرة القاهرة، والإحاطة التامة، والعلم الشامل.
وهو المهيمن على كل شيء بقوته، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته، إن كل شيء في السماوات والأرض يسبح الله تسبيح المملوك لمالكه المتفرد، الذي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)} [النور: ٤١، ٤٢].
فحين نقول في الصلاة: (الله أكبر) فإننا نستحضر كبرياء الله وعظمته وجلاله، ونراه مهيمناً على هذا الكون، متفرداً بالتصريف والتدبير.
وحين نقول: (الحَمْدُ لِلّهِ) فإننا نستحضر مستوجبات الحمد، وهي نعم الله الظاهرة والباطنة في العالم العلوي وفي العالم السفلي.
وحين نقول: (رَبّ العَالمين) فإننا نستحضر نعم الربوبية من خلق وإيجاد من عدم، إلى كون مليء بالنعم التي تعطى بلا مقابل، إلى إخضاع لقوى الكون لخدمة الإنسان، إلى منهج إلهي يحقق لنا السعادة في الدنيا والآخرة.
وحين نقول: (الرَّحْمن الرَّحِيم) فإننا نستحضر الرحمة والمغفرة، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وفتح باب التوبة، وكل ما وضعه الله سبحانه من رحمة وسعت كل شيء في هذا الكون.
وحين نقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)} فإننا نستحضر يوم الحساب، وكيف أن الله سبحانه سيجزينا خير الجزاء، ويعطينا نعيماً وجنة وفق ما يريد.
فإذا استعرضنا ذلك كله، واستحضرناه، وعرفنا هذه النعم، وهذا الرب الرحيم، فما المطلوب منا؟
المطلوب هو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).
أي أن نعبد الله وحده لا شريك له.
والعبادة: هي الخضوع، والصلاة عبادة، والسجود هو منتهى الخضوع لله.
والله عزَّ وجلَّ أمرنا بالخضوع له أمام الناس علناً، أن أسجد وأضع رأسي مكان قدمي، وأعلن خضوع ذاتي لله أمام البشر كلهم، أعلن عبوديتي لله، وذلك حتى لا أستكبر.
والله سبحانه يريد الناس جميعاً عبيداً له وحده لا شريك له.
لذا يستوي في العبودية وفي إعلان الخضوع لله الغني والفقير، والكبير والصغير، والملك والعبد، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى، والقوي والضعيف.
وقد أرسل الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليكون مثلاً أعلى للبشرية كلها في كل شيء، في العبادة لله عن حب وإيمان، وذل وخضوع.
وخضوعنا للرب الملك القادر والقاهر شرف لنا، بل هو قمة الشرف لنا، فالله بعظمته وجلاله وجماله وكماله يجعل الخضوع له شرفاً لنا، فنحن لا نخضع لمساوٍٍ لنا، ولا لمن فوقنا درجة، ولا لمن فوقنا درجات، ولا لأي مخلوق في الكون مهما كان.
بل نخضع لخالق الكون كله، ومهما بلغت القوى التي فوقنا، فإن لكل قوة في الكون قدرة لا تتجاوزها.
ولكن الله سبحانه وتعالى فوق كل قدرة، وفوق كل قوة، وفوق كل شيء، والأصل في الحياة أن يخضع الأدنى للأعلى، ولكن الله سبحانه وتعالى حررنا من هذه العبودية، بأن جعلنا لا نخضع لسواه، فله الحمد والشكر على هذه النعمة.
ولجهل الإنسان بربه فقد عبد مخلوقات يعتقد أنها تنفعه، وتدفع عنه ما يضره، كالشمس والقمر، والنار والريح، والأصنام، والملائكة، والجن والقبور وغيرها.
وينتقل من عبودية إلى عبودية أخرى، يصور له جهله أشياء، ويصور له خوفه أشياء، ويصور له حبه أشياء.
وهكذا.
فخضع الإنسان للإنسان، وخضع للحيوان، وخضع للجماد.
وفي كل خضوعه كان يعطي ولا يأخذ، ويعطي الذهب والفضة للمعابد ولا يأخذ شيئاً، ويدعو وينادي ويستغيث ولا مجيب له.
والله يريد منه أن يتحرر من عبادة تلك المخلوقات الهزيلة التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٧١)} [الأنعام: ٧١].
ويريد منه أن يعبد الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (٥٨)} [الفرقان: ٥٨].
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٢٧٧).
مختارات