فقه حسن الخلق (٦)
وحسن الخلق قسمان:
حسن الخلق مع الله.. وحسن الخلق مع الناس.
حسن الخلق مع الله أن يكون العبد منشرح الصدر بأوامر الله تعالى ونواهيه، يفعل ما أمره الله به، راضياً به، فرحاً بأدائه، مستبشراً بطاعة ربه، مجتنباً ما نهى الله عنه، وأن يعلم أن كل ما يكون من نفسه يوجب عذراً، وأن كل ما يأتي من الله
يوجب شكراً، فلا يزال شاكراً لربه، معتذراً إليه من تقصيره، سائراً إليه بين مطالعة منة الله، وشهود عيب نفسه.
وحسن الخلق مع الناس جماعه أمران:
بذل المعروف قولاً وفعلاً.. وكف الأذى قولاً وفعلاً.
ففي المعاملات مع الناس يكون سمحاً لحقوقه، لا يطالب بها غيره، ويوفي ما يجب عليه لغيره منها:
فإن مرض ولم يعد.. أو قدم من سفر فلم يزر.. أو ضاف فلم يكرم.. أو أحسن فلم يشكر.. أو تكلم فلم ينصت له.. أو استأذن فلم يؤذن له.. أو خطب فلم يزوج.. وما أشبه ذلك لم يغضب ولم يعاقب، ولم يتنكر من حاله حال، ولا يقابل ذلك بمثله.
بل يضمر أنه لا يعتد بشيء من ذلك، ويقابل كلاً منه بما هو أحسن وأفضل، واقرب منه إلى البر والتقوى.
ثم يكون في إيفاء ما يكون عليه أفضل وأحسن وأجمل، فإذا مرض أخوه المسلم عاده.. وإن استمهله في قضاء دين أمهله.. وإن جاء في شفاعة شفعه.. وإن احتاج منه إلى معونة أعانه.. وإن استسمحه في بيع سمح.. ولا ينظر ولا يلتفت إلى سوء معاملته له فيما خلا.
إنما يتخذ الأحسن إماماً لنفسه، ويسبق إلى كل فضيلة، ويأنف من كل رذيلة، ويتجاوز لإخوانه عن كل سيئة، ويعفو ويصفح، ويتبع السيئة الحسنة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)} [فصلت: ٣٤،٣٥].
وبحسب قوة إيمان العبد، وكمال تصديقه بالجزاء، ومعرفة حسن موعود الله وثوابه، يسهل على العبد تحمل ذلك، والقيام به، ويلذ له الاتصاف به.
وحسن السمت من أخلاق الأنبياء والصالحين، وهو دليل على كمال الإيمان ورجاحة العقل، وهو حسن المظهر الخارجي للإنسان من طريقة الكلام والصمت، والحركة والسكون، والدخول والخروج، وحسن الهيئة، وحسن السيرة العملية بين الناس، وحسن المعاشرة مع الأهل.
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: كَانَ النَّبِيُّ (مَرْبُوعاً، وَقَدْ رَأيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مَا رَأيْتُ شَيْئاً أحْسَنَ مِنْهُ. متفق عليه (١).
وحسن الظن بالله تعالى من حسن العبادة.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَمُوتَنَّ أحَدُكُمْ إِلا وَهُوَ يُّحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه مسلم (٢).
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأبْصَرَنَا، فَقال: «مَا ظَنُّكَ يَا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» متفق عليه (٣).
والأخلاق غرائز كامنة، وحسن الخلق ميل النفس نحو الأرفق الأحمد من الأقوال والأفعال، والتخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله التي ذكرها في كتابه.
وإذا حسنت أخلاق الإنسان كثر محبوه وقلّ معادوه، فسهلت عليه الأمور الصعاب، ولانت له القلوب الغضاب، ونبتت على جوارحه المحاب، وسال لسانه بكل ما لذ وطاب.
فحسن الخلق ذهب بخيري الدنيا بالآخرة، وخيار الناس أحاسنهم أخلاقاً.
وأحسن البشرية أخلاقاً على الإطلاق سيد الأولين والآخرين، وسيد ولد آدم، وسيد الأنبياء والرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال عنه ربه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} [القلم: ٤].
ولحسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - وكمال أدبه، فهو محمود عند الله.. ومحمود عند ملائكته..ومحمود عند إخوانه المرسلين.. ومحمود عند أهل الأرض كلهم.. وما فيه من صفات الكمال محمود عند كل عاقل.. وهو أحمد الخلق لربه.
وهو محمود بما يملأ به الأرض من الهدى والإيمان، والعلم النافع والعمل الصالح.. فتح الله به القلوب.. وكشف به الظلمة عن أهل الأرض.. واستنقذهم من أسر الشياطين.. ومن الشرك بالله والكفر به والجهل به.. ونال أتباعه شرف الدنيا والآخرة.
أغاث الله به البلاد والعباد.. وأحيا به الخليقة بعد الموت.. فهدى به من الضلالة.. وعلَّم به من الجهالة.. فعرف الناس ربهم ومعبودهم.
عرَّفهم بربهم.. وعرَّفهم بالطريق الموصل إليه.. وعرَّفهم بمالهم بعد القدوم عليه.
لم يدع حسناً إلا أمرهم به.. ولا قبيحاً إلا نهاهم عنه.. ولم يدع باباً من أبواب العلم النافع المقرب إلى الله إلا فتحه.. ولا مشكلاً إلا بيَّنه وشرحه.. ولا خيراً إلا رغَّب به.. ولا شراً إلا حذر منه.
حتى هدى الله به القلوب من ضلالها.. أرسله الله رحمة للعالمين.
فأي بشر أحق بأن يحمد منه - صلى الله عليه وسلم -؟.
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق، وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثاً، وأجودهم، وأسخاهم، وأصبرهم، وأعظمهم عفواً ومغفرة ورحمة، وأعظم الخلق نفعاً للعباد في دينهم ودنياهم، وأشدهم تواضعاً، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه.
ولما كانت هذه صفاته، وهذه أخلاقه، أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نقتدي به كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)} [الأحزاب: ٢١].
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٨٤٨)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٣٣٧).(٢) أخرجه مسلم برقم (٢٨٧٧).(٣) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٦٥٣)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٣٨١).
مختارات