فقه حسن الخلق (٣)
والأعمال الصالحة كالأخلاق الحسنة يصيبها الخلل والنقص، فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه وأعماله وأقواله، وليشتغل بعلاجها تدريجياً، وليصبر على ذلك وشدته ومرارته فإنه سيحلو كما يحلو الفطام للطفل بعد كراهته له، فلو رد إلى الثدي لكرهه.
وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ بعبد خيراً بصَّره بعيوب نفسه، فمن كملت بصيرته لم تخف عليه عيوبه، وإذا عرف العبد عيوبه أمكنه العلاج، ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوبهم، يرون الصغائر في غيرهم، ولا يرون الكبائر في أنفسهم.
ولا بدَّ لكل مسلم مع الإيمان والإخلاص والعمل الصالح من الأخلاق الحسنة، فهي التي تحفظ الأعمال الصالحة.
فيأتي العبد يوم القيامة بأعمال صالحة كالجبال، وهي من الأعمال المقبولة، ولكن إذا كانت أخلاقه سيئة أكلت هذه الأعمال.
يأتي وقد شتم هذا.. وسب هذا.. وقذف هذا.. وسرق هذا.. وظلم هذا، وغدر بهذا.. وقتل هذا..
فماذا يبقى له من الأجر والحسنات إذا أخذ هؤلاء حقوقهم منه؟
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار» أخرجه مسلم (١).
فالإيمان فريضة، وتعلمه فريضة.. والإخلاص فريضة، وتعلمه فريضة.. والعمل فريضة، وتعلمه فريضة.. والأخلاق فريضة، وتعلمها فريضة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)} [فصلت: ٣٤ - ٣٦].
وأكمل الناس إيماناً أكملهم خلقاً.. ولذلك وصف الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} [القلم: ٤].
وأحسن الناس أخلاقاً هم الأنبياء والرسل، ثم يليهم من آمن بهم، فقد فرق الله الأخلاق الحسنة في الأنبياء والرسل، ثم جمعها في محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم فرقها في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي هي خير أمة أخرجت للناس، والناس معادن فيجب الاستفادة من هذه المعادن النفيسة فأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هم خير القرون؛ لأنهم أخذوا الدين والأخلاق عن النبي مباشرة، فكانت فيهم حياة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجهد محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فظهرت في حياتهم أحسن الأخلاق كالإيمان والتقوى، والصدق والإخلاص، واليقين والتوكل، والرحمة والشفقة، والجود والكرم، والحياء والتواضع، والعدل والإحسان، والمحبة والإيثار.
وغير ذلك من الصفات والأخلاق التي كانت سبباً في هداية الناس للدين، وجذبهم إليه، ومحبتهم له.
وكانت فيهم صفات مشتركة بينهم لا يخلو منها أحد منهم أهمها:
الإيمان بالله.. وطاعة الله ورسوله.. والعبادات التي تزكي النفوس وأعظمها الصلاة.. وتعلم العلم الذي تصح به العبادات والمعاملات وتعليمه.. والدعوة التي بسببها تنتشر الهداية.. والكرم الذي بسببه تُقبل النفوس إلى الدين.. والرحمة التي بسببها تنزل الرحمة عليهم وعلى الناس.. والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.. والإخلاص الذي يُقبل به العمل.. ثم مضى زمن فصار الجهاد من أجل الملك والمال فتركه الناس، واشتغلوا بطلب العلم وتعليمه، ثم دخلت الدنيا على طلبة العلم، ودخل فيهم من يطلب العلم لا لله، بل لأمر يريده من جاه أو مال.
ثم اشتغل أناس من أهل الإيمان بالتزكية فلازموا المساجد، وتركوا الساحة للشيطان، يعيث في الخلق فساداً.
ثم دخل فيهم ونافسهم أهل البدع والأهواء، فاشتغلوا بالتزكية الإبليسية، وتبعهم أناس على ذلك، وبذلك انتشرت البدع، وصارت ديناً يعبد الله به، ويتقرب إليه به.
ثم ذهبت حقيقة العبادة وروحها، وبقيت في أكثر الأمة صورة العبادة ثم خرجت الأخلاق من المعاملات والمعاشرات، وترك أكثرهم الدعوة إلى الإيمان والأعمال، وأقاموا مكانها الدعوة إلى الأموال والأشياء..
فقامت الدنيا.. وقعد الدين.. وزاد المال.. وقل الإيمان.. وكثرت الأشياء.. وقلت الأعمال.. وقعد أكثر الناس على موائد الدنيا.. وقاموا عن موائد الآخرة؟.. وتسابق أكثر الناس إلى سنن اليهود والنصارى.. وتركوا سنن الأنبياء والمرسلين..
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لاتَّبَعْتُمُوهُمْ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» متفق عليه (٢).
فخير القرون قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، الذين فيهم الإيمان، والعبادة، والدعوة، والتعليم، والجهاد، ومكارم الأخلاق، ثم يليهم من بعدهم.. ثم من بعدهم.. ثم خيرهم مِنْ بعدهم من اتصف بصفاتهم، وعمل كأعمالهم، وتخلق بأخلاقهم.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» متفق عليه (٣).
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٥٨١).(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٤٥٦)، ومسلم برقم (٢٦٦٩). واللفظ له.(٣) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٢٦٥٢)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٥٣٣).
مختارات