درجات الأخلاق (١)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)} [النحل: ٩٠].
وقال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)} [فصلت: ٣٤ - ٣٥].
الأخلاق في الإسلام ربانية المصدر، فكلها مستمدة من الشرع، وهي ربانية الهدف، فكلها يبتغي بها المسلم وجه الله ورضاه.
منها ما هو مأمور به كالصدق والإحسان، ومنها ما هو منهي عنه كالكذب والبخل، والمأمور به درجات، والمنهي عنه درجات.
ومهما تخلق الإنسان بالأخلاق الحسنة فإنها ستبقى صورة بلا روح طالما لم يُرِد بها صاحبها وجه الله ورضاه.
فليس الغرض من الأخلاق وجود صورتها الخارجية، وإنما هذه آثارها، فمصدرها قلبي، وأصلها صلاح الباطن، تملك على المسلم قلبه، ويدفعه إليها إيمانه، ويزيده الالتزام بها إيماناً؛ لأنها عبادة.
فالعدل عبادة مأمور بها، والإحسان عبادة، وترك الفحشاء عبادة، وترك المنكرات عبادة كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)} [النحل: ٩٠].
والعدل مع العدو أقرب إلى التقوى؛ لأنها مسألة عبادية كما قال سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)} [المائدة: ٨].
ومهما حسنت أخلاق الكافر فهي هباء منثور؛ لأنها لم تكن خالصة لوجه الله، وإذا لم تكن خالصة لله، فإنها ستظهر نفاقاً أو لمصلحة ثم تزول، ويظهر ما وراءها من سوء الخلق كما قال سبحانه عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)} [الفرقان: ٢٣].
والإسلام يدعو إلى مكارم الأخلاق، والسمو إلى أعلى الدرجات، ولكنه يراعي نفسية البشر وحاجاتهم كما قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦)} [التغابن: ١٦].
ولا يعتبر الخائف أو المكره ناقضاً للصدق إن كذب لينجو حين لا ينجيه من البطش إلا الكذب كما قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)} [النحل: ١٠٦].
كما لا يعد الجائع المضطر خائناً للأمانة إن سرق ليأكل، ولا يعد طيشاً وخروجاً عن خلق الحلم إن غضب وثار من استُفِز واستُغْضِب.
والأخلاق الإسلامية أصيلة في نفس صاحبها، لا تفارقه في جميع أحواله، فليست قميصاً يلبسه إذا شاء، وينزعه إذا شاء، بل هي لازمة له لزوم النور للشمس؛ لأنها تعبدية، يدور صاحبها مع الحق حيث دار، ويثبت عليها في كل حال.
فلا يتغير خلقه مع الضعفاء والأقوياء.. ولا مع الفقراء والأغنياء.. ولا يتغير خلقه في حال رضاه وغضبه.. ولا في حال فقره وغناه.. ولا في حال خلوته وجلوته.. ولا في حال سفره وإقامته.. ولا فيما له ولا فيما عليه.
ولا تختلف أخلاقه حين يكون أميراً أو مأموراً، أو مكرماً أو مظلوماً.
فالمسلم ثابت على أخلاقه التي أمره الله بها، أما أخلاق الكفار فهي متقلبة تدور مع المصالح والأهواء، وتدير صاحبها على حسب تقلبها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١١)} [الحج: ١١].
مختارات