تأملات في سورة العصر (1)
في القرآن الكريم سورة قصيرة، كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا التقيا لم يتفرقا حتى يتلو أحدهما على الآخر هذه السورة، وكان الإمام الشافي رحمه الله تعالى يقول: لو فكر الناس في هذه السورة لكفتهم.
هذه السورة:
ترسم حدود منهج كامل للحياة البشرية، كما يريدها خالق البشرية، فعلى امتداد الزمان في جميع العصور، وعلى امتداد المكان في جمع الدهور، ليس أمام الإنسان إلا منهجٌ واحدٌ رابح وطريق واحد سالك، إلى جنة الخلد، وكل ما وراء ذلك، ضياعٌ وخسارةٌ وشقاء.
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [سورة العصر:1-2].
لقد أقسم الله جل جلاله بمطلق الزمن: العصر، للإنسان الذي هو في حقيقته، زمن، فهو بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، وما من يوم ينشق فجره، إلا وينادي يا بن آدم، أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
لقد أقسم الله بالزمن، للإنسان، أنه في خسر بمعنى أن مضي الزمن وحده، ويستهلك عمر الإنسان، الذي هو رأس ماله، ووعاء عمله الصالح، الذي هو ثمن الجنة التي وعد بها.
وهل الخسارة في العرف التجاري، إلا تضييع رأس المال من دون تحقيق الربح المطلوب، لكن الإنسان إذا استثمر الوقت فيما خلق له، يستطيع أن يتلافى هذه الخسارة، وذلك بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
﴿وَالْعَصْرِ1/103إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ2/103إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [سورة العصر:1-3].
أولا: (إلا الذين آمنوا)،
الإيمان هو اتصال هذا الكائن الإنساني، الصغير، الضعيف الفاني، المحدود، بالأصل المطلق الأزلي الباقي، الذي صدر عنه هذا الوجود وعندئذٍ ينطلق هذا الإنسان من حدود ذاته الصغيرة، إلى رحابة الكون الكبير، ومن حدود قوته الهزلية، إلى عظمة الطاقات الكونية المخبوءة، ومن حدود عمره القصير، إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله، هذا الاتصال فضلاً على أنه يمنح الإنسان القوة، والامتداد والانطلاق، فإنه يمنحه السعادة الحقيقية التي يلهث وراءها الإنسان وهي سعادة رفيعة، وفرح نفيس، وأُنس بالحياة، كأنس الحبيب لحبيبه وهو كسب لا يعدله كسب، وفقدانه خسران لا يعدله خسران، وعبادة إله واحد يرفع الإنسان عن العبودية لسواه، فلا يذل لأحد، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار، فليس هناك إلا قوة واحدة، ومعبودٌ واحد وعندئذ تنتفي من حياة الإنسان المصلحة، والهوى، ليحل محلها الشريعة والعدل والاعتقاد بكرامة الإنسان وهو لوازم الإيمان، الاعتقاد بكرامة الإنسان عند الله يرفع من قيمته في نظر نفسه، ويثير في نفسه الحياء، من التدني عن المرتبة الله إليها.
ثانياً: (وعملوا الصالحات)،
ولأن الإيمان حقيقة إيجابية متحركة كان العمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، فما إن تستقر حقيقة الإيمان في ضمير المؤمن حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها، في صورة عمل صالح، فلا يمكن أن يظل الإيمان في نفس المؤمن خامداً لا يتحرك، كامناً لا يتبدى، فإن لم يتحرك الإيمان هذه الحركة الطبيعية؛ فهو مزيف، أو ميت، شأنه شأن الزهرة ينبعث أريجها منها، انبعاثاً طبيعياً، فإن لم ينبعث منها أريج، فهو غير موجود، والزهرة غير طبيعية.
والعمل الصلح ليس فلتةً عارضة، ولا نزوةً طارئة، ولا حادثةً منقطعة، إنما ينبعث عن دوافع، ويتجه إلى هدف، ويتعاون عليه المؤمنون.
فالإيمان ليس انكماشاً، ولا سلبيةً، ولا انزواءً، ولا تقوقعاً بل هو حركةٌ خيرةٌ، نظيفة، وعمل إيجابي، هادف، وإعمار متوازنٌ للأرض، وبناء شامخ للأجيال، يتجه إلى الله، ويليق بمنهج يصدر عن الله.
تأملات في الإسلام: د. محمد راتب النابلسي.
مختارات