مصطفى السباعي - "هكذا علمتني الحياة"
مناجاة!
يا رب! خلقتنا فنسيناك، ورزقتنا فكفرناك، وابتليتنا لنذكرك فشكوناك، ونسأت لنا في الأجل فلم نبادر إلى العمل، ويسرت لنا سبيل الخير فلم نستكثر منه، وشوّقتنا إلى الجنة فلم نطرق أبوابها، وخوّفتنا من النار فتقحَّمنا دروبها، فإن تعذّبنا بنارك فهذا ما نستحقه وما نحن بمظلومين، وإن تدخلنا جنتك فذاك ما أنت أهله وما كنا له عاملين.
ما كلّ..
ليس كل من أمسك القلم كاتباً، ولا كل من سوَّد الصحف مؤلفاً، ولا كل من أبهم في تعبيره فيلسوفاً، ولا كل من سرد المسائل عالماً، ولا كل من تمتم بشفتيه ذاكراً، ولا كل من تقشَّف في معيشته زاهداً، ولا كل من امتطى الخيل فارساً، ولا كل من لاث العمامة شيخاً، ولا كل من طرّ شاربه فتى، ولا كل من طأطأ رأسه متواضعاً، ولا كل من افترَّ ثغره مسروراً.
أنت تعلم.. وأنا أعلم
إلهي! أنت تعلم: أني لم أتقرَّب إليك بصالح الأعمال.
وأنا أعلم: أنك تغفر الذنوب جميعاً إلا الإشراك بك.
أنت تعلم: أني لم أبتعد عما نهيت من سيئ الأعمال.
وأنا أعلم: أنك ما كلفتنا من التقوى إلا بما نستطيع.
أنت تعلم: أني لم أعبدك كما ينبغي لجلال وجهك أن يُعبد.
وأنا أعلم: أنك تخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان.
أنت تعلم: أن نفسي لم تصف من كدورتها برغم تعرّضي لنفحاتك.
وأنا أعلم: أنك خلقتني من الطين، وأنبتّني من التراب، وأسكنتني في الأرض، وامتحنتَني بالشيطان.
أنت تعلم: أني أسبح في بحر متلاطم الأمواج لأصل إلى شاطئ أمنك وسلامتك.
وأنا أعلم: أنك شددتني في الحياة بما يبطئ بي في الوصول إليك من زوجة وولد، وحاجة ومرض، وهموم وأحزان.
أنت تعلم: أني مشوق إلى الغوص في بحار أسرارك، والتعرض لفيوض أنوارك.
وأنا أعلم: أنك خلقت فيَّ مع نور العقل ظلمة الشهوة، ومع خضوع الملائكة تمرُّد إبليس، ومع سموِّ السماء هبوط الأرض، ومع صفاء الخير كدورة الشر، ومع نار الحب دخان الهوى.
أنت تعلم: أني أريد الوصول إليك صادقاً منكسراً.
وأنا أعلم: أنك تجتبي من تشاء، وتصطفي من تختار، بفضل منك لا بأعمالهم، وبكرم منك لا باستحقاقهم.
إلهي! هذا بعض ما تعلمه مني، وبعض ما أعلمه عنك، فاجعل ما علمته شفيعاً لما علمته، وأوصلني إلى ما تعلمه مما أحاول، على ما أعلمه عندي من ضعف الوسائل، ولا تجعل علمك بي مبعداً لي عنك، ولا علمي بك فاتناً لي عن الوصول إليك، اللهم إنك تعلم ونحن لا نعلم وأنت الحكيم الوهّاب.
مناجاة!
إلهي! دعوتنا إلى الإيمان فآمنا، ودعوتنا إلى العمل فعملنا، ووعدتنا النصر فصدَّقنا، فإن لم تنصرنا لم يكن ذلك إلا من ضعف في إيماننا، أو تقصير في أعمالنا، ولأن نكون قصرنا في العمل، أقرب إلى أن نكون ضعفنا في الإيمان، فوعزَّتك ما زادتنا النكبات إلا إيماناً بك، ولا الأيام إلا معرفة لك، فأما العمل فأنت أكرم من أن تردَّه لنقصٍ وأنت الجواد، أو لشبهة وأنت الحليم، أو لخلل وأنت الغفور الرحيم.
من تعلق...
من تعلَّق قلبه بالدنيا لم يجد لذَّة الخلوة مع الله، ومن تعلق قلبه باللهو لم يجد لذة الأنس بكلام الله، ومن تعلق قلبه بالجاه لم يجد لذة التواضع بين يدي الله، ومن تعلق قلبه بالمال لم يجد لذة الإقراض لله، ومن تعلق قلبه بالشهوات لم يجد لذة الفهم عن الله، ومن تعلق قلبه بالزوجة والولد لم يجد لذة الجهاد في سبيل الله، ومن كثرت منه الآمال لم يجد في نفسه شوقاً إلى الجنة
انتصار المؤمنين
في بحار من الظلمات بعضها فوق بعض، وفي حشود من الشر يأتي بعضها إثر بعض، وفي أرسالٍ من الشك يردف بعضها بعضاً، في زمجرة الأعاصير، وفي تفجُّر البراكين، في أمواج البحر المتلاطمة.. يلجأ المؤمنون إلى إيمانهم فيملأ قلوبهم برداً وأمناً، ويفيئون إلى ربهم فيسبغ عليهم سلاماً منه ورضواناً، ويرجعون إلى كتاب هدايتهم فيملأ عقولهم حكمة وعلماً، ويلتفُّون حول رسولهم فيزيدهم بصيرة وثباتاً.. حينذاك.. يناجي المؤمنون ربهم وقد خضعت له جباههم، وخشعت له قلوبهم:؟ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار¯ ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن ءامنوا بربكم فئامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار¯ ربنا وءاتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد؟.
هنالك يستجيب لهم الحق بوعد الصدق:؟ أني لا أضيعُ عمل عاملٍ منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب؟.
ثم تدفعهم يد الله إلى طريق المعركة مبينة لهم وسائل النصر:؟ يأيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون؟.
ويسير المؤمنون وهم يرفعون عقيرتهم بالدعاء:؟ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب؟.
ويخوضون معركة الحق وهم يرددون:؟ ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين؟.
ويسجل كتاب الخلود نتيجة المعركة بثلاث كلمات: فهزموهم بإذن الله.
أين حكمتك؟
يتساءلون عن حكمتك في المرض والجوع، والزلازل والكوارث، وموت الأحبَّاء و حياة الأعداء، وضعف المصلحين وتسلط الظالمين، وانتشار الفساد وكثرة المجرمين، يتساءلون عن حكمتك فيها وأنت الرؤوف الرحيم بعبادك؟ فيا عجباً لقصر النظر ومتاهة الرأي، إنهم إذا وثقوا بحكمة إنسان سلموا إليه أمورهم، واستحسنوا أفعاله وهم لا يعرفون حكمتها، وأنت.. أنت يا مبدع السموات والأرض، يا خالق الليل والنهار، يا مسير الشمس والقمر، يا منزل المطر ومرسل الرياح، يا خالق الإنسان على أحسن صورة وأدقّ نظام.. أنت الحكيم العليم.. الرحمن الرحيم.. اللطيف الخبير.. يفقدون حكمتك فيما ساءهم وضرهم، وقد آمنوا بحكمتك فيما نفعهم وسرّهم، أفلا قاسوا ما غاب عنهم على ما حضر؟ وما جهلوا على ما علموا؟ أم أن الإنسان كان ظلوماً جهولاً؟!
أين أنت
يتساءلون عنك: أين أنت؟ فيا عجباً للعُمْي البُلْه! متى كنت خفيًّا حتى نسأل عنك؟ ألست في عيوننا وأسماعنا؟ ألست في مائنا وهوائنا؟ ألست في بسمة الصغير وتغريد البلبل؟ ألست في خفيف الشجر وضياء القمر؟ ألست في الأرض والسماء؟ ألست في كلِّ شيء كلِّ شيء؟ أليست هذه آياتك الدالة عليك؟ أليست هذه من بدائع صنعك يا أحسن الخالقين؟ أليست آيات تدبيرك الحكيم بارزة في صغير هذا الكون وكبيره؟ فكيف يسأل عنك هؤلاء إلا أن يكونوا عمياً في البصائر والأبصار؟
{إن في السموات والأرض لأيتٍ للمؤمنين * وفي خلقكم وما يبث من دابةٍ ءاياتٌ لقوم يوقنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح ءايات لقوم يعقلون}
رسول الله والأنبياء
لئن شقَّ موسى بحراً من الماء فانحسر عن رمل وحصى، فقد شقَّ محمد صلى الله عليه وسلم بحوراً من النفوس فانحسرت عن عظماء خالدين، ولئن ردَّ الله ليوشع شمساً غابت بعد لحظات فقد ردَّ الله بمحمد إلى الدنيا شمساً لا تغيب مدى الحياة، ولئن أحيا عيسى الموتى ثم ماتوا فقد أحيا محمد أمماً ثم لم تمت..
مناجاة!
إلهي! وعزتك ما عصيناك اجتراءً على مقامك، ولا استحلالاً لحرامك، ولكن غلبتنا أنفسنا وطمعنا في واسع غفرانك، فلئن طاردنا شبح المعصية لنلوذنًّ بعظيم جنابك، ولئن استحكمت حولنا حلقات الإثم لنفكنها بصادق وعدك في كتابك، ولئن أغرى الشيطان نفوسنا باللذة حين عصيناك، فليغرين الإيمان قلوبنا بما للتائبين من فسيح جنانك، ولئن انتصر الشيطان علينا لحظات، فلنستنصرنَّ بك الدهر كله، ولئن كذب الشيطان في إغوائه، ليصدقن الله في رجائه.
بين صبرين
الصبر على الهوى أشق من الصبر في المعركة وأعظم أجراً، فالشجاع يدخل المعركة يمضغ في شدقيه لذة الظفر، فإذا حمي الوطيس نشطت نفسه وزغردت، والمؤمن وهو يصارع هواه يتجرَّع مرارة الحرمان فإذا صمّم على الصبر ولَّت نفسه وأعولت، والشجاع يحارب أعداءه رياءً وسمعة وعصبية واحتساباً، ولكن المؤمن لا يحارب أهواءه إلا طاعة واحتساباً.