2. فوائد من كتاب أدب الدنيا والدين للماوردى
حكمــــــة
حكي عن فيثاغورس في وصاياه المرموزة أنه قال: احفظ ميزانك من البذيء، وأوزانك من الصديء. يريد بحفظ الميزان من البذيء حفظ اللسان من الخنا، وحفظ الاوزان من الصدى حفظ العقل من الهوى. فصار بهذا الرمز مستحسنا ومدونا ولو قاله باللفظ الصريح والمعنى الصحيح، لما سار عنه، ولا استحسن منه. وعلة ذلك أن المحجوب عن الافهام كالمحجوب عن الابصار فيما يحصل له في النفوس من التعظيم، وفي القلوب من التفخيم وما ظهر منها ولم يحتجب هان واسترذل.
حكمــــــة
قال بعض الحكماء: أكمل الراحة ما كانت عن كد التعب، وأعز العلم ما كان عن ذل الطلب. وربما استثقل المتعلم الدرس والحفظ واتكل بعد فهم المعاني على الرجوع إلى الكتب والمطالعة فيها عند الحاجة فلا يكون الا كمن أطلق ما صاده ثقة بالقدرة عليه بعد الامتناع منه فلا تعقبه الثقة الا خجلا والتفريط الا ندما.
حكمــــــة
قال الفضل بن سهل: من سعادة المرء أن يكون رديء الخط؛ لأن الزمان الذي يفنيه بالكتابة يشغله بالحفظ والنظر. وليست رداءة الخط هي السعادة، وإنما السعادة أن لا يكون له صارف عن العلم. وعادة ذي الخط الحسن أن يتشاغل بتحسين خطه عن العلم فمن هذا الوجه صار برداءة خطه سعيدا، وإن لم تكن رداءة الخط سعادة.
حكمــــــة
ينبغي لطالب العلم أن يكشف عن الاسباب المانعة عن فهم المعنى ليسهل عليه الوصول إليه، ثم يكون من بعد ذلك سائسا لنفسه مدبرا لها في حال تعلمه. فإن للنفس نفورا يفضي إلى تقصير ووفورا يئول إلى سرف وقيادها عسر ولها أحوال ثلاث: فحال عدل وإنصاف، وحال غلو وإسراف، وحال تقصير وإجحاف فأما حال العدل والانصاف فهي أن تختلف قوى النفس من جهتين متقابلتين: طاعة مسعدة وشفقة كافة. فطاعتها تمنع التقصير، وشفقتها ترد عن السرف والتبذير. وهذه أحمد الاحوال؛ لأن ما منع من التقصير نما، وما صد عن السرف مستديم. والنمو إذا استدام فأخلق به أن يستكمل.
حكمــــــة
قال بعض الحكماء: إياك ومفارقة الاعتدال، فإن المسرف مثل المقصر في الخروج عن الحد. وأما حال الغلو والاسراف فهي أن تختص النفس بقوى الطاعة وتقدم قوى الشفقة فيبعثها اختصاص الطاعة على إفراغ الجهد، ويفضي إفراغ الجهد إلى عجز الكلال، فيؤدي عجز الكلال إلى الترك والاهمال، فتصير الزيادة نقصانا، والربح خسرانا.
حكمــــــة
قالت الحكماء: طالب العلم وعامل البر كآكل الطعام إن أخذ منه قوتا عصمه، وإن أسرف فيه أبشمه. وربما كان فيه منيته كأخذ الادوية التي فيها شفاء ومجاوزة القصد فيها السم المميت، وأما حال التقصير والاجحاف فهي أن تختص النفس بقوى الشفقة وتعدم قوى الطاعة فيدعوها الاشفاق إلى المعصية، وتمنعها المعصية من الاجابة فلا تطلب شاردا، ولا تقبل عائدا، ولا تحفظ مستودعا. ومن لم يطلب الشارد، ويقبل العائد، ويحفظ المستودع فقد الموجود، ولم يجد المفقود. ومن فقد ما وجد فهو مصاب محزون، ومن لم يجد ما فقد فهو خائب مغبون.
حكمــــــة
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عقبى الاخرق مضرة، والمتعسف لا تدوم له مسرة. قال بعض الحكماء: القصد أسهل من التعسف، والكف أودع من التكلف. وربما تتبع نفس الانسان من بعد عنه استهانة بمن قرب منه، وطلب ما صعب احتقارا لما سهل عليه، وانتقل إلى من لم يخبره مللا لمن خبره، فلا يدرك محبوبا ولا يظفر بطائل.
حكمــــــة
أما ما يجب أن يكون عليه العلماء من الاخلاق التي بهم أليق، ولهم ألزم، فالتواضع ومجانبة العجب؛ لأن التواضع عطوف والعجب منفر. وهو بكل أحد قبيح وبالعلماء أقبح؛ لأن الناس بهم يقتدون وكثيرا ما يداخلهم الاعجاب لتوحدهم بفضيلة العلم. ولو أنهم نظروا حق النظر وعملوا بموجب العلم لكان التواضع بهم أولى، ومجانبة العجب بهم أحرى؛ لأن العجب نقص ينافي الفضل.
حكمــــــة
قال بعض السلف: من تكبر بعلمه وترفع وضعه الله به، ومن تواضع بعلمه رفعه به. وعلة إعجابهم انصراف نظرهم إلى كثرة من دونهم من الجهال، وانصراف نظرهم عمن فوقهم من العلماء فإنه ليس متناه في العلم الا وسيجد من هو أعلم منه إذ العلم أكثر من أن يحيط به بشر. قال الله تعالى: {نرفع درجات من نشاء}. يعني في العلم: {وفوق كل ذي علم عليم} قال أهل التأويل: فوق كل ذي علم من هو أعلم منه حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى.
حكمــــــة
روى عون بن عبد الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا. أما طالب العلم فإنه يزداد للرحمن رضى، ثم قرأ {إنما يخشى الله من عباده العلماء}. وأما طالب الدنيا فإنه يزداد طغيانا ثم قرأ: {كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى} وليكن مستقلا للفضيلة منه ليزداد منها، ومستكثرا للنقيصة فيه لينتهي عنها، ولا يقنع من العلم بما أدرك؛ لأن القناعة فيه زهد، وللزهد فيه ترك، والترك له جهل.
حكمــــــة
قد قسم الخليل بن أحمد أحوال الناس فيما علموه أو جهلوه أربعة أقسام متقابلة لا يخلو الانسان منها فقال: الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاسألوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك ناس فذكروه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه.
حكمــــــة
قال حاتم الطائي: ولم يحمدوا من عالم غير عامل خلافا ولا من عامل غير عالم رأوا طرقات المجد عوجا قطيعة وأفظع عجز عندهم عجز حازم لأنه لما كان علمه حجة على من أخذ عنه واقتبسه منه حتى يلزمه العمل به والمصير إليه كان عليه أحج وله ألزم؛ لأن مرتبة العلم قبل مرتبة القول، كما أن مرتبة العلم قبل مرتبة العمل.
حكمــــــة
قال أبو العتاهية رحمه الله: اسمع إلى الاحكام تحملها الرواة إليك عنكا واعلم هديت بأنها حجج تكون عليك منكا ثم ليتجنب أن يقول ما لا يفعل، وأن يأمر بما لا يأتمر به، وأن يسر غير ما يظهر، ولا يجعل قول الشاعر هذا: اعمل بقولي وإن قصرت في عملي ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري عذرا له في تقصير يضمره وإن لم يضر غيره. فإن إعذار النفس يغريها ويحسن لها مساوئها. فإن من قال ما لا يفعل فقد مكر، ومن أمر بما لا يأتمر فقد خدع، ومن أسر غير ما يظهر فقد نافق.
حكمــــــة
من آداب العلماء أن لا يبخلوا بتعليم ما يحسنون ولا يمتنعوا من إفادة ما يعلمون. فإن البخل به لوم وظلم، والمنع منه حسد وإثم. وكيف يسوغ لهم البخل بما منحوه جودا من غير بخل، وأوتوه عفوا من غير بذل. أم كيف يجوز لهم الشح بما إن بذلوه زاد ونما، وإن كتموه تناقص ووهي. ولو استن بذلك من تقدمهم لما وصل العلم إليهم ولانقرض عنهم بانقراضهم، ولصاروا على مرور الايام جهالا، وبتقلب الاحوال وتناقصها أرذالا. وقد قال الله تعالى: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ".
حكمــــــة
إذا علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت، فاعلم أن المتعلمين ضربان: مستدعى وطالب. فأما المستدعى إلى العلم فهو من استدعاه العالم إلى التعليم لما ظهر له من جودة ذكائه، وبان له من قوة خاطره. فإذا وافق استدعاء العالم شهوة المتعلم كانت نتيجتها درك النجباء، وظفر السعداء؛ لأن العالم باستدعائه متوفر، والمتعلم بشهوته مستكثر وأما طالب العلم لداع يدعوه، وباعث يحدوه، فإن كان الداعي دينيا، وكان المتعلم فطنا ذكيا، وجب على العالم أن يكون عليه مقبلا وعلى تعليمه متوفرا لا يخفي عليه مكنونا، ولا يطوي عنه مخزونا. وإن كان بليدا بعيد الفطنة فينبغي أن لا يمنع من اليسير فيحرم، ولا يحمل عليه بالكثير فيظلم.ولا يجعل بلادته ذريعة لحرمانه فإن الشهوة باعثة والصبر مؤثر.
حكمــــــة
حكي عن سفيان الثوري أنه قال: تعلمنا العلم لغير الله تعالى فأبى أن يكون الا لله. قال عبد الله بن المبارك: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا. وإن كان الداعي محظورا، كرجل دعاه إلى طلب العلم شر كامن، ومكر باطن يريد أن يستعملهما في شبه دينية، وحيل فقهية، لا تجد أهل السلامة منها مخلصا، ولا عنها مدافعا.