إذ ذهب مغاضبا..
يقول تعالى:
﴿وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾
أكثر مفسري السلف في تفسير قوله تعالى (مغاضبا)
أي: لربه...
وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق سعيد بن جبير ومروي عن سعيد بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والشعبي والحسن البصري ووهب بن منبه واختاره الطبري وابن قتيبة رحمهم الله جميعا.واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله...وقول ابن سيده في المحكم من أهل اللغة.
والقول الثاني: مغاضبا لقومه.
وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق العوفي وعن الضحاك.
ثم استحسنه أي الثاني( مغاضبا لقومه) أكثر المتأخرين وقدموه في المختصرات المحققة كالميسر والمختصر واستشكل كثير من المتأخرين القول الأول وأوردوا عليه...
وهذا أيضا من المقامات الكثيرة التي يتبين فيها تفرد السلف في تفسيرهم ودقة نظرهم وظفرهم بالصواب في أقوالهم.
فإن السياق يدل على ما ذهب إليه أكثر مفسري السلف وأن ما وقع ليونس عليه السلام إنما هو من الموجدة التي وجدها في نفسه والمعاتبة لربه ويتبين قوة هذا النظر من وجوه كثيرة:
منها:
أن القول الثاني وهو قولهم: ذهب مغاضبا لقومه فإن كان المعنى: خروجه قبل أن يأذن الله له بسبب كفرهم؛ فإن ترتيب المؤاخذة يكون على الذهاب قبل الإذن؛ وليس على الغضب؛ فإن الغضب من الكفار بالله، وبغضهم والحنق عليهم أمر محمود.
وإن كان معناه: أنه خرج بسبب إيمانهم؛ فهذا بعيد؛ فكيف يغضب نبي لإيمان قومه، ودخولهم فيما دعاهم له، وهو أقدح في النبوة مما فروا منه.
وأما من قال: خرج مغاضبا من أجل ربه؛ فهذا فيه بعد؛ فأن الغضب لله مما يحمد عليه المؤمن؛ فكيف يرتب السياق المؤاخذة عليه.
ومنها:
أن الله تعالى قال (إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ)
أي أن يونس عليه السلام حين وجد المعتبة والموجدة في نفسه لربه ( على اختلاف السبب الذي نقله السلف لهذه الموجدة) ظن أن الله تعالى لن يؤاخذه بها فيضيق عليه.
وبهذا تلاحظ مناسبة ترتيب قوله تعالى فظن أن لن نقدر عليه (نضيق عليه) أي إذا غاضبنا.
ومنها:
أن المغاضبة تقع ببواعث مختلفة منها شدة ثقة العبد بربه ومحبته له وحسن ظنه به فقد يسبق إليه خاطر بسبب قدر من أقداره تبارك وتعالى
وقد تقع هذه الخواطر بسبب قصور تعظيم الرب في قلب العبد
وما يقع من الأنبياء إنما هو من الأول.
ومنها:
أن الإيرادات التي أوردت على ظاهر قول السلف يمكن الجواب عليها
وأن الله تعالى لكمال رحمته ومغفرته وحلمه يحتمل من عباده بحسب منازلهم وأحوالهم وقوة إيمانهم وضعفه.
وعامة الناس -حتى لا يكاد يسلم أحد- يقع لهم في نفوسهم من هذه الخواطر عن ربهم بسبب الأقدار المؤلمة والوقائع التي يرونها والله يعفو عنهم لقلة صبرهم وجهلهم وضعف إيمانهم
ومن اللطائف في ترجمة يوسف البقال في ذيل طبقات الحنابلة:
وحُكِيَ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ بِـ«مِصْرَ» زَمَنَ وَاقِعَةِ «بَغْدَادَ» فَبَلَغَنِي أَمْرُهَا. فَأَنْكَرْتُهُ بِقَلْبِي، وَقُلْتُ: يَارَبِّ كَيْفَ هَذَا وَفِيْهِمُ الأطْفَالَ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ؟ فَرَأَيْتُ فِي المَنَامِ رَجُلًا، وَفِي يَدِهِ كِتَابٌ، فَأَخَذْتُهُ فَإِذَا فِيْهِ:
دعَ الاعْتِرَاضَ فَمَا الأمْرُ لَكْ … وَلَا الحُكْمُ فِي حَرَكَاتِ الفَلَكْ
وَلَا تَسْأَلِ اللهَ عَنْ فِعْلِهِ … فَمَنْ خَاضَ لُجَّةَ بَحْرٍ هَلَكْ.
فما يقع في النفوس يعفو الله عنه، إما بسبب تأخر مرتبة العبد في الإيمان، وقلة صبره، أو بسبب بلوغه غاية الكمال فيحتمل منه.
لكن يونس عليه السلام كان نبيا، فكانت هذه المغاضبة عظيمة عند الله منه؛ إذ كان في مرتبة النبوة، وما ينبغي لها من غاية الصبر واليقين.
ومن وجه آحر كان عليه الصلاة والسلام دون أولى العزم من الرسل فلم يحتمل له.
وفي (مدارج السالكين) قال ابن القيم رحمه الله:
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول:" انظر إلى «موسى» صلوات الله وسلامه عليه رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد ﷺ ورَفْعِهِ عليه، وربه
تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه، ويكرمه، ويُدَلِّلُه، لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر .
وانظر إلى «يونس بن متى» حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى".انتهي كلام ابن تيمية
بل قد جاء في حديث المعراج من طرق حسنها بعض العلماء كالذهبي والوادعي
في قصة موسى عليه السلام بلفظ ( يعاتب ربه) وفي لفظ ( يتذمر).
مختارات