من الأدلة العقلية في إثبات الصفات والأفعال "دليل الافتقار" لشيخ الإسلام رحمه الله
من الأدلة العقلية عن ابن تيميةفي إثبات الصفات والأفعال"دليل الافتقار"
وإذا وضعنا دليل الافتقار في قضية كلية كالقول بأن كل محدث لا بد له من محدِث، أو كل ممكن لا بد له من واجب، أو كل فقير لا بد له من غني أو كل مخلوق لا بد له من خالق، إلى غير ذلك من الأخبار العامة فإنها حق في نفسها، ولكنها لا تنفى أيضًا العلم بطريقة معينة مخصوصة بل إن الثانية أسبق إلى الفطرة لأن علم الإنسان بالحكم في الأعيان المشخصة الجزئية أبين للعقل من الحكم في الأولى. مثال ذلك إذا رأي الإنسان كتابة معينة "علم أنه لا بد لها من كاتب.. وإن لم يستشعر في ذلك الحال كل كتابة كانت أو تكون أو يمكن أن تكون"[1]
ويرى ابن تيمية في سياق بحثه المنطقي أن القضايا المعينة الجزئية معلومة للعقلاء بالضرورة، فإن كل أحد من الناس يعلم أنه لابد له من محدث لأن أبواه لم يحدثانه، كذلك يثبت لخالقه صفات الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر لأنه يعلم هذه الصفات بغيره فاتصاف خالقه بها أولى.
وفي شرحه للآية: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، يبرهن على أن الإنسان يعلم قدرة الفاعل، وإرادته وعلمه لما يرى في نفسه من الإحكام - وهو آية العلم والاختصاص، أو التخصيص، الدال على إرادة الفاعل، والإحداث وهو علامة على قدرة المحدث "فالآية والعلامة الدالة على الشيء يجب أن يكون ثبوتها مستلزمًا لثبوت المدلول الذي هو علامة عليه"[2] ولا يشترط لذلك اندراجها تحت قضية كلية.
وبناء عليه فإن مخلوقات الله تعالى آيات عليه، وقد سميت كذلك لأنها لا تفتقر إلى قياس تمثيلي أو شمولي وأن كان مؤيد لمقتضاها.
ثم ينتقل ابن تيمية هنا من النظر العقلي المبرهن على إثبات الله وصفاته وأفعاله إلى اليقين القلبي فيقول "لكن علم القلوب بمقتضى الآيات والعلامات لا يجب أن يقف على هذا القياس"[3]، ويفرق بدقة بين العالم الذي يعرف ربه عقلًا، بينما يخلو قلبه من التأله وبين العارف الذى يمجد بقلبه حب الله وخشيته والرغبة إليه"[4]..
فإذا عدنا لدليل الافتقار المثبت للفاعل، نراه يبني على هذه المقدمة نتيجة يبرهن بها على قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى، ويضع هذه الصيغة كما يلي:
إن كل مخلوق في ذاته ونفسه مفتقرة إلى الخالق.. أي لا تكون موجودة إلا به "ولا تدوم وتبقى إلا بالفاعل"[5].
هي إذن مفتقرة إليه في حدوثها، كما أنها مفتقرة إليه في بقائها. وقد تعددت الآيات القرآنية التي تنبهنا إلى كليهما. ففي المعنى الأول مثل قوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الواقعة: 58، 59] ومثل قوله تعالى في المعنى الثاني: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41].
ويتم الإبقاء بالرزق الذي يمنحه الله للمخلوقات[6] ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40].
إن نصوص الكتاب والسنة تثبت الصفات والأفعال القائمة بالله، عز وجل وتؤيدها الحجج العقلية كما تدعمها كذلك قواعد اللغة. فمن حيث الأدلة العقلية، فإن الصفة "إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل"[7] كما أن حكمها لا يعود على غيره[8].
ومن حيث قواعد اللغة والاشتقاق فإنه من الضروري أن يشتق "لذلك المحل من تلك الصفة اسم، لا يشتق الاسم لمحل لم تقم به تلك الصفة"[9].
ويبدو أنه هنا يتقيد بما سبقه إليه البخاري صاحب الصحيح وفي كتابه "خلق أفعال العباد"، إذ يفرق بين الفاعل والفعل والمفعول، لأن الفعل صفة والمفعول غيره مثل قوله تعالى: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الكهف: 51]، فإن الله تعالى ميز فعل السموات من السموات.
ويقول البخاري في شرح التمييز بين الوصف والصفة: "وأما الوصف من الصفة، فالوصف إنما هو قول القائل حيث يقول هذا رجل طويل وثقيل جميل وحديد، فالطول والجمال والحدة والثقل إنما هو صفة الرجل وقول القائل وصف"[10].
[1] نفس المصدر ص 92.
[2] نفس المصدر ص 96.
[3] نفس المصدر ص 98.
[4] نفس المصدر ص 107.
[5] نفس المصدر ص 98.
[6] نفس المصدر ص 100.
[7] منهاج السنة ج 1 ص 178.
[8] شرح العقيدة الأصفهانية ص 55.
[9] نفس المصدر ص 55 ومنهاج السنة ج 1 ص 178.
[10] البخاري. خلق أفعال العباد ص 94 ط دلهي 1307هـ.
د مصطفى حلمي
مختارات