هل ترون ما أرى ؟!
فضَّل الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبينا محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكرَّمه، وخصه بأشياء دون غيره من الأنبياء، فله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خصائص في الدنيا، وله خصائص في الآخرة، مما يدل على علو منزلته، وعظيم قدره عند ربه تبارك وتعالى، كيف لا، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وخير خلق الله أجمعين، ومن خصوصياته ومعجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه يرى ما لا يراه غيره من الناس.
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: ( انكسفت الشمس في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، يوم مات إبراهيم ابن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال الناس: إنما انكسفت لموت إبراهيم، فقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات، بدأ فكبر، ثم قرأ، فأطال القراءة، ثم ركع نحوا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثم ركع نحوا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الثانية، ثم ركع نحوا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم انحدر بالسجود فسجد سجدتين، ثم قام فركع أيضا ثلاث ركعات ليس فيها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها، وركوعه نحوا من سجوده، ثم تأخر، وتأخرت الصفوف خلفه، حتى انتهينا، ـ وقال أبو بكر بن أبي شيبة ـ: حتى انتهى إلى النساء، ثم تقدم وتقدم الناس معه، حتى قام في مقامه، فانصرف حين انصرف، وقد آضت الشمس (رجعت إلى حالها)، فقال: يا أيها الناس إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس - وقال أبو بكر: لموت بشر -، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا حتى تنجلي، ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار، وذلكم حين رأيتموني تأخرت، مخافة أن يصيبني من لفحها (لهيبها)، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن (العصا) يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به، وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت جوعا، ثم جيء بالجنة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل، فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه ) رواه مسلم.
وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قالوا: ( يا رسول الله: رأيناك تناولتَ شيئا في مقامك هذا ثمّ رأيناك كففت؟!، فقال: إنّي رأيت الجنّة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدّنيا، ورأيت النّار فلم أر كاليوم منظرا قطّ، ورأيت أكثر أهلها النّساء،، قالوا: بم يا رسول الله؟!، قال: بكفرهنّ، قيل: أيكفرن بالله؟!، قال: بكفر العشير وبكفر الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدّهر ثمّ رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ ) رواه مسلم.
رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يصلي الجنة شاخصة أمامه، ورأى النار، وشاهد أهلها وهم يعذبون، والصحابة خلفه ينظرون إليه، فلا يرون جنة ولا نارا، بل يرون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يتناول شيئا، وهذا دليل على أنه يرى ما لا يراه أحد، وهذا من خصوصياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبجانب ذلك الفضل وتلك الخصوصية ففي هذين الحديثين فوائد كثيرة، منها:
علمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض الغيبيات التي أطلعه الله عليها:
كل ما يُخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ماض، أو مستقبل، أو حاضر لم يره، هو وحي من الله ـ عز وجل ـ، فكما جاءت الأدلة تدل على أن الله ـ تبارك وتعالى ـ اختص بمعرفة علم الغيب وأنه استأثر به دون خلقه، جاءت أدلة تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء الله من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله دلالة صادقة على نبوتهم، قال تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }(الجـن:26: 27).
ومن ذلك الغيب الذي أعلمه الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إطلاعه على كل ما وُعِدَت به هذه الأمة إلى قيام الساعة، وذلك من قوله ـ صلى الله عليه وسلم: ( فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه )، أي أن الرؤية لم تقتصر على الجنة والنار، ولا يخفى على أحد ما تنطوي عليه هذه المعجزة من تكريم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإظهار لفضله وسبقه على الأولين والآخرين.
قدرة الله:
يظهر ذلك في رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجنة والنار في مكانه وهو يصلي، ورؤية كل ما توعد به الأمة إلى يوم القيامة، يرى ذلك ويعقله، ولا يراه أحد غيره، ممن يقف وراءه، حتى دنت منه النار بلهيبها وحرها، كما أن قدرته ـ سبحانه ـ تتمثل أيضا في قِصَر الوقت الذي استغرقته تلك المعجزة العظيمة، خاصة أنه رأى كل ما وُعِدَت به الأمة، فقدرة الله ـ عز وجل ـ لا يعقلها عقل، ولا يحدها وصف، ولا يعجزها شيء، فعلى المسلم ألا يقيس تلك الأخبار على قدرة الإنسان المحدودة، بل يسلم بكل ما ورد بالكتاب والسنة الصحيحة دون إدخال العقل، اللهم إلا في التفكر في عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى.
الكسوف والخسوف من آيات الله:
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله تعالى يخوف بها عباده ) رواه البخاري، وفي رواية أخرى: ( فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة )، وفي ذلك بطلان قول من يقول: إن الكسوف والخسوف ظواهر طبيعية، لا علاقة لها بأعمال العباد، وأنه لا ينبغي لنا أن نخاف من حدوثها أو كثرة تكرارها، ثم إن معرفة موعدها لا يخرجها عن كونها آية يخوّف الله بها عباده.
رؤية الجنة والنار:
رؤيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجنة والنار في الحياة الدنيا، كانت رؤية واضحة لا التباس فيها، بدليل أنه ميّز في هذه الفترة الوجيزة، أن أكثر أهل النار النساء، كما رأى امرأة تخدشها هِرة، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ورد في مسلم: ( وحتى رأيت صاحب المحجن، يجر قصبه في النار )، وهذه الرؤية لم تكن رؤية بالقلب، بل كانت رؤية بالعين، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لقد جيء بالنار حيث رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها )، ورؤية القلب لا يتضرر الإنسان منها، كما أنه لا يمد يده ليتناول ما يراه بقلبه، والحاصل أنها كانت رؤية يقظة واضحة بينة.
ومن أمثلة رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لا يراه أحد، ما رواه البخاري عن أسامة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( أشرف النّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أطم من آطام المدينة، فقال: هل ترون ما أرى؟، إنّي لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر )، قال ابن حجر: " (أشرف) أي نظر من مكان مرتفع، قوله: (مواقع) أي مواضع السقوط (خلال) أي نواحيها، قد شبه سقوط الفتن وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم، وهذا من علامات النبوة لإخباره بما سيكون "، وقال في موضع آخر: " والرؤية بمعنى النظر، أي كشف لي فأبصرت ذلك عيانا ".
رؤيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وراء ظهره:
دلّت أحاديث صحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى الذين يقفون خلفه في الصلاة، فعن أنس بن مالك رضي ـ الله عنه ـ أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم - قال: ( أتموا الركوع والسجود، فوالله إني أراكم من خلف ظهري، إذا ركعتم وسجدتم ) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً ثمَّ انصرف، فقال: يا فلان ألا تحسن صلاتك؟، ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟، فإنما يصلي لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي ) رواه مسلم.
والظاهر من سياق الحديثين أن الرؤية هنا رؤية بصرية لا مجرّد إلهام أو وحي، كما قرّر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح -، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( إني والله لأبصر )، ولو كان مقصده مجرّد العلم لما كان لتقييده ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالرؤية من وراء ظهره فائدة تفيد الخصوصية.
لقد كثرت المعجزات والخصوصيات التي فضَّل الله ـ عز وجل ـ بها نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذه واحدة منها، وهي أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان يرى ما لا يراه غيره من الناس، بل كان يرى من وراء ظهره.
مختارات