اختبار أم الفحم ودروس يوم الأرض
من الصعب الاقتناع بأن مسيرة العصابة الإرهابية من حركة «كاخ»، التي جرت في شارع التفافي لمدينة أم الفحم، ثاني مدن فلسطينيي 48 يوم الثلاثاء الماضي، كانت مجرد قرار لهذه الحركة المحظورة في الولايات المتحدة، وشكلياً في " إسرائيل "، بل إن التجربة تؤكد أن مبادرات عنصرية من هذا المستوى تكون بتخطيط على أعلى مستويات المؤسسة الأمنية العسكرية الإسرائيلية.
فهذه العصابة، التي تضم أشرس مستوطني مدينة الخليل في الضفة الغربية المحتلة، وتطالب جهاراً باقتلاع الفلسطينيين من وطنهم في سائر أنحاء فلسطين التاريخية، طالبت منذ أشهر طويلة بتسيير «مظاهرة أعلام إسرائيلية» في قلب مدينة أم الفحم، في خطوة تستهدف استفزاز المشاعر.
وبداية تلكأت الشرطة وجهاز المخابرات العامة في استصدار ترخيص لهذه المظاهرة، فتوجه المبادرون للحصول على ترخيص من المحكمة العليا الإسرائيلية، التي منحتهم الترخيص مباشرة، قبل ستة أشهر من الآن، وقد جرت محاولتان لتسيير المسيرة، إلا أنه كان يتم تأجيلها في اللحظة الأخيرة، بسبب «تخوفات» الأجهزة الإسرائيلية من رد الفعل لفلسطينيي 48.
في نهاية المطاف، جرت المسيرة يوم الثلاثاء الماضي عند شارع خارجي ولفترة 20 دقيقة، وبطبيعة الحال لم تنجح المسيرة في دخول المدينة، أمام تصدي آلاف أبناء المدينة وفلسطينيي 48 لها، إذ وقعت مواجهات عنيفة بعد أن شنت شرطة " إسرائيل " وجيشها عدواناً وحشياً على العرب.
في ذلك اليوم تبين بشكل واضح أن الأجهزة الأمنية أرادت استغلال الحدث ليكون اختباراً جديداً لمدى جاهزية فلسطينيي 48 للنضال والتحدي والتصدي، وهذا برز من خلال تواجد الآلاف من عناصر الشرطة والجيش، وطبيعة الأسلحة والآليات التي كانت بحوزتهم، وشراسة العدوان الذي نفذوه ضد الآلاف، ونتائجه الدموية، وحملة الاعتقالات التي تبعته.
وبطبيعة الحال لا نعرف ما الذي ستسجله تلك الأجهزة في سجلاتها لتقييم الحدث؟ إلا أن الواقع الميداني لذلك اليوم كان يتحدث وحده، وهو أن الشعلة النضالية التي انطلقت قبل 61 عاماً، ما زالت تزداد توهجاً، وأن كل سياسات القمع والاضطهاد والتمييز العنصري لا تنفع في تطبيق الهدف الاستراتيجي الذي وضعته المؤسسة الرسمية والحركة الصهيونية من خلفها، وهو اقتلاع البقية الباقية من الشعب الفلسطيني في وطنها منذ عام 1948.
وهذا استنتاج مهم في هذه المرحلة بالذات، خاصة على ضوء استفحال السياسة العنصرية، ووصول أشرس العنصريين إلى أعلى مستويات الحكم، ليصبحوا جزءاً أساسياً من آلية اتخاذ القرار في " إسرائيل "، إذ نلمس أن هناك مخططات ومؤامرات أشد، يجري إعدادها ضد فلسطينيي 48، وهي مخططات لم تتوقف للحظة، بل يجري تطويرها من حين إلى آخر، لتكون أكثر شراسة.
وقد جاء «الفحص» الإسرائيلي في هذه الأيام بالذات، قبيل بضعة أيام من إحياء الذكرى الـ 33 من يوم الأرض الخالد، الذي انطلقت شرارته في مناطق 1948، في أواخر مارس من عام 1967، احتجاجاً وغضباً على سياسة مصادرة الأراضي التي سجلت في تلك المرحلة، ليكون يوم الثلاثين من ذلك الشهر يوماً صدامياً مشهوداً، أسفر عن سقوط ستة شهداء برصاص الشرطة والعسكر ومئات الجرحى ومئات المعتقلين.
وقد كان يوم الأرض الأول، يوماً مفصلياً في تاريخ فلسطينيي 48، وسجل بداية مرحلة نضالية جديدة، أشد من سابقتها، ففي تلك السنوات، كان قد تبلور جيل شاب، لم يعايش أيام النكبة، أو كان طفلاً لم يستوعبها، ويستوعب آلامها ورعبها، ولكنه ولد وترعرع في ظل حكم عسكري قامع وحشي يتحكم في لقمة العيش وأبسط تفاصيل الحياة.
وفي الوقت نفسه فإن هذا الجيل نما على ثقافة وطنية، كانت تعمل في أحلك الظروف وأقساها، يوم أن كان العمل السياسي جريمة لا تغتفر تكلف الشخص مكان عمله وحرية حركته، ورغم ذلك، فقد كانت سنوات الخمسينيات والستينيات مرحلة تبلور الأدب والشعر الفلسطيني الثوري والمقاوم في الداخل، وعلى رأسهم الشعراء توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، وأدباء كبار وعلى رأسهم إميل حبيبي وغيره.
وكان هذا الخطاب الثوري وشعره وأدبه غذاء روحياً لتنمية الروح النضالية للتصدي للظلم والعدوان، حتى كانت بداية سنوات السبعين، وبدأ العمل السياسي يأخذ منحى جديداً، وحقق قفزة جديدة في الصدام مع السلطة، استمراراً لقفزات تحققت في سنوات سبقتها.
وقد أيقنت المؤسسة الإسرائيلية منذ ذلك العام ويوم الأرض، أنها أمام مرحلة جديدة، شكلت انهياراً كاملاً لكل ما تبقى من جدار الخوف والرهبة لدى قطاعات وأوساط جماهيرية، وعليها أن تصطدم مع أجيال رأت أن لا خيار لها سوى الصدام مع سياسة التمييز العنصري والحرب والاحتلال.
وبطبيعة الحال فإن نقطة الانطلاق الأساسية التي حققها يوم الأرض الأول، مهدت لانطلاقات وتطوير لآليات العمل السياسي والنضال العام.
في الأيام المقبلة سيُعلن في " إسرائيل " عن تشكيل حكومة جديدة، برئاسة بنيامين نتنياهو، ومواصفات هذه الحكومة ليست بحاجة إلى تدقيق كبير، فيكفي النظر إلى مركباتها الأساسية، والشخصيات المركزية التي ستجلس من حول طاولة هذه الحكومة، لنعرف أي مستقبل ولنقل أي طبيعة للمواجهة تنتظر فلسطينيي 48.
والغالبية الساحقة من الوزراء، هم من الذي يؤمنون بالكامل، بضرورة استمرار سياسة التمييز العنصري، لا بل وتعميقها أكثر من خلال سن المزيد من القوانين، التي نصت عليها اتفاقيات الائتلاف الحاكم، وقد نأتي عليها مفصلا لاحقا، إضافة إلى أن عدداً كبيراً من الوزراء وغالبية نواب الائتلاف الحاكم، على قناعة بأن حل الصراع يكمن في طرد كل الفلسطينيين من فلسطين التاريخية، ولكن قد يكون هذا بصياغات تجميلية، ولكن لا يمكن إخفاء جوهرها الأساسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة العرب القطرية
الكاتب: برهوم جرايسي
مختارات