القدس بين الألم والأمل
تعيش القدس الحبيبة في الوقت الراهن أخطر مرحلة في حياتها ومنذ بنائها فالعقلية الصهيونية تعمل جاهدة لإلغاء طابع هذه المدينة وجعلها مدينة يهودية الوجه والقلب واللسان متجاوزة قدسيتها لدى المسلمين والمسيحيين على سواء وطمس معالمها العربية والإسلامية.
إن القدس في خطر أرضاً وسكاناً؛ حاضراً ومستقبلاً،، و " إسرائيل " تسعى لتهويدها حجراً حجراً، ولتهجير سكانها منها وحصارها اقتصادياً واجتماعياً بعزلهم عن بعدهم وعمقهم الفلسطيني والعربي وممارسة كافة أشكال الإذلال والتضييق والاستفزاز؛ في هدم للبيوت ومصادرة للممتلكات وسحب للهويات وإقفال المؤسسات الوطنية وشقّ الطرق وسط التجمعات الفلسطينية وبناء للجدار وعرقلة تحركاتهم والتضييق على عبادتهم والاعتداء على المقدسات.. الخ، حتى أنه لم يسلم من هذه الحملة لا الأحياء ولا الأموات في قبورهم ولا الشجر ولا الحجر من القمع والتنكيل والتنكيد اليومي الذي يعيشه المواطن المقدسي.
وكل المعطيات والوقائع تؤكد على أن حالة القدس مستعصية على العلاج في الوقت الراهن على الأقل لسبب جوهري يتمثل في عدم وجود خطة مشتركة لعلاجها أو لإنقاذها، إضافة إلى عدم توافر أنواع الأدوية ومضادات التهويد والاستيطان في الصيدلية العربية والإسلامية.
وبرغم تعاقب وتبدل الحكومات " الإسرائيلية " يمينها ويسارها ليكودها وعملها؛ إلا أنها متفقة جميعا على تهويد القدس واعتبارها العاصمة الأبدية لدولة الكيان الغاصب " إسرائيل " غير عابئة أبداً بأيّ قرارات تعارض هذا الاتجاه سواء كانت عربية أم إسلامية أم دولية.
ولعلنا ما زلنا نذكر مقولة وزير الحرب الصهيوني (موشي ديان) غداة احتلال القدس الشرقية حينما قال وهو يصلي جوار حائط البراق: " لا فراق بعد اليوم ولا عزلة ولا ابتعاد، سنبقى معاً الشعب والأرض والحائط ".
وإن من يرى حمى الاستيطان في فلسطين ويلمس جنون التهويد في القدس، سيصاب بحالة اكتئاب واكتواء مقارنة بما وصل إليه أعداؤنا من تخطيط وتنفيذ ووضوح رؤيا في الوقت الذي تعاني فيه أمتنا من ارتجالية واتكالية وتشرذم، حتى أدخلت القدس في نفق شديد العتمة عربياً وإسلامياً وشديد الإضاءة والإبهار يهودياً وصهيونياً.
فالقدس حتى الآن لم تشهد عملاً عربياً وإسلامياً نافذاً يحافظ على هويتها ويحميها من كيد أعدائها، وكل ما اكتسبته من أمتها بيانات شجب واستنكار، فكل مؤتمراتنا صغيرها وكبيرها تندد دائماً بالإجراءات والممارسات " الإسرائيلية " غير الشرعية التي تقوم بها سلطات الاحتلال في مدينة القدس، والهادفة لتهويد قبلة المسلمين الأولى، وطمس معالمها العربية والإسلامية. إنه مجرد كلام أجوف لا قيمة له على واقع القدس البتة.
لكن وفي المقابل، فإن من حسن حظ القدس أن الله تبارك وتعالى قد باركها وما حولها من فوق سبع سماوات وأسرى بآخر وأشرف أنبيائه محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى المبارك وصلى فيه إماماً بالأنبياء والرسل جميعاً وعرج به إلى سدرة المنتهى منها، وأنها أرض المحشر والمنشر، وأن الله ربط بين مسجدها الأقصى والمسجد الحرام برباط رباني أزلي لن تفصم عراه أي قوة بشرية مهما بلغ جبروتها واشتد طغيانها، لأن المسجد الأقصى والقدس آية في كتاب الله تبارك وتعالى.
فالقدس ليست مدينة كالمدن ولا عاصمة كالعواصم، إنها مركز الإشعاع الذي لا يذوي ولا ينطفئ، يتفجر بمعان تاريخية ودينية وحضارية، وإن التفريط فيها يعني تفريطنا في جزء من تاريخنا وجزء من ديننا وجزء من حضارتنا، كما أن التفريط فيها جريمة الجرائم في حق الماضي والحاضر والمستقبل.
ومن حسن حظ القدس أن التاريخ البشري دائم الحركة والتغيير، والغزوة الصهيونية لمدينة القدس ليست فريدة، فقد واجهت هذه المدينة عبر تاريخها الطويل الموغل في القدم كثيراً من الغزوات والنكبات أدت إلى هدمها وإعادة بنائها ثماني عشرة مرة، وكانت في كل مرة تخرج مرفوعة الرأس موفورة الكرامة والصلابة بصورة تدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولعل الله عز وجل وضع فيها سراً من أسراره الإلهية يساعدها على البقاء فيه تحت البصر وحيّة في أعماق البصيرة.
ومهما طال مكوث الغزاة الصهاينة في ديارنا فحتما سيرحلون عنها كمثل الغزاة الذين سبقوهم، فقد دارت أكبر المعارك على أرض فلسطين، وليس بعيداً عن القدس مثل حطين وأجنادين وعين جالوت واليرموك وغيرها. وإن ما تم اغتصابه بالقوة لن يتم تحريره إلا بالقوة، والأيام دول، وإن كنا نعيش اليوم فترة انحسار أو جزر مرحلي فإن المد والجزر في التاريخ وبين الأمم هما أشياء متعاقبة غير ثابتة.
أما العجز الذي يعتري أمتنا اليوم فليس قدراً أبدياً محتوماً علينا، فالأمر الذي لا نستطيع إنجازه اليوم سنحققه غداً إن شاء الله، وذلك مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى: ( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(آل عمران: من الآية140) وأوصانا ألاّ نيأس أو نحزن على ما أصابنا: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)
وقرن سبحانه نصره لنا بنصرنا له وانقيادنا لمشيئته وطاعته: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(الحج: من الآية40) ووعدنا بالنصر: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً) (الإسراء:5)
وفي الختام المطلوب منا كما قال ناصر العثمان رئيس تحرير جريدة الراية القطرية، أن نعمل بأقصى طاقاتنا لإبقاء القدس حية في ضمائرنا نابضة في قلوبنا، نقرأ تاريخها، ونتعرف على قسمات وجهها، ونتابع أخبارها وأحداثها، ونغرس هذه المعرفة الحميمية في أوردة وشرايين أولادنا وذرارينا وأجيالنا القادمة.
فمن يعرف القدس يحبها ويضحي من أجلها، والتضحية هي مفتاح النصر بالدنيا ومفتاح الظفر بالآخرة، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
ويقيننا أنه مهما ادلهمت الخطوب وعبست الأيام فلن يتسرب اليأس إلى قلوبنا ولن نقول للقدس إلا مهلاً يا أنشودة الحياة وصبراً جميلاً يا أم الأنبياء والشهداء، ولن نقول للقدس وداعاً، بل لقاء مرتقباً ونصراً مؤكداً إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الفلسطيني للإعلام
الكاتب: النائب أحمد عطون
مختارات