القدس إلى مذبح التهويد
لا يحتاج المرء لكبير عناء كي يلحظ إلى أي مدى تستغل «إسرائيل» انصراف أنظار العالم إلى أماكن أخرى، لتمعن تهويداً في القدس وذبحاً لعروبتها ونحراً لتاريخها وثقافتها وتراثها، متبعة أسلوباً منهجياً يظن البعض، أو هكذا يتقصّد الإيحاء، أنه انفعالي وطارئ أو ناتج عن نزوات مستوطنين مراهقين أو متزمتين دينياً.
ليس الأمر كذلك، فالمدينة تتعرّض لأسوأ مخطط تهويدي في تاريخها، وإذا كان ما يجري على أرضها ينذر بخطر كبير، فإن ما يجري تحتها ينذر بخطر أكبر، بل ينذر بلحظة الإجهاز على عروبة المدينة وإنسانيتها، وقد لا تكون بعيدة تلك اللحظة التي يهوي فيها المسجد الأقصى في الفراغ الذي أحدثوه تحته وما زال يتسع كل دقيقة، فالآليات تعمل ليلاً ونهاراً تحت القدس وحولها، والمخطط يجري بسهولة ويسر في ظل غياب عربي وإسلامي عن الوعي، إلى أن تحل مرحلة بناء «الهيكل» المزعوم في مكان المسجد الأقصى، وحينها سنصحو على استنكار «شديد اللهجة»، أو إدانة «بأشد العبارات».
ولعل اقتحام غلاة الإرهاب من قطعان المستوطنين للمسجد الأقصى على نحو يومي، بموازاة ما تقوم به سلطات الاحتلال من خنق للمقدسيين لتهجيرهم، مرتبط بهذا المخطط. فالتجارب السابقة تؤشر إلى ما يخبئه المحتلون الصهاينة للمراحل اللاحقة، لذلك نشهد في الآونة الأخيرة اقتحامات متكررة تفضي إلى توتّر يكبر ويتصاعد وصولاً إلى ارتكاب مجزرة على غرار تلك التي ارتكبها الإرهابي باروخ غولدشتاين في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل سنة 1994، وحينها استغلت «إسرائيل» تلك الجريمة ووظّفتها لصالحها، بأن قسّمت الحرم بين المسلمين واليهود، فضلاً عن تحويل المنطقة التي يقع بها إلى ما يشبه الثكنة العسكرية، بحيث يصبح الوصول للمسجد رحلة محفوفة بالمخاطر.
كل ما يجري للقدس وفيها وحولها يؤكد أن المخطط الصهيوني يقترب من لحظة حسم لمصيرها ميدانياً قبل أية طاولة تفاوض. و«إسرائيل» لها تجربتها مع العرب، هذه التجربة تقول إنه كلما تمسّكت «إسرائيل» بقضيّة تخلوا عنها. فهي أخذت من بعض العرب اعترافاً صريحاً، ومن بعضهم الآخر اعترافاً ضمنياً، ومن دون تفاوض بل بالمجان، ب «دولة» على ثمانين بالمائة من فلسطين، وها هي تفاوضهم على شكل حكمهم للبلديات في العشرين بالمئة الباقية.
القيادة الفلسطينية أقصى ما استطاعته أن تدعو لاجتماع طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي. لنفرض أن قيادة هذه المنظمة لبت الدعوة وعقدت اجتماعاً طارئاً هذا اليوم، ما الذي يمكن أن تفعله أو تقوله ليخيف «إسرائيل» قبل أن يردعها؟. هذا الكيان الغاصب والمتعجرف لا يمكن أن يخاف من مؤسسة أنشئت بعد حريق المسجد الأقصى قبل أربع وأربعين سنة، ولم تتمكّن من منع الصهاينة من نبش حجر صغير واحد تحت المسجد الأقصى. وحتى لو عقد اجتماع مشترك بين المنظمة والجامعة العربية، إذا فرضنا أن لديهما الوقت والاهتمام، فلن يغيّر ذلك في الأمر شيئاً، لأن القضية أكبر من الاجتماعات والمبادرات والتصريحات والخطابات على المنابر بأنواعها.
الكيان الصهيوني يجر القدس إلى مذبح التهويد الكلي لإسقاطها تماماً من حسابات العرب والمسلمين والعالم، ولا مانع لديهم إن بقيت موضوعاً خطابياً على المنابر ورومانسياً في القصائد، وفرصة لاستعراض عضلات دبلوماسية أقصى ما بها من طاقة، أن تعقد اجتماعاً طارئاً ينتهي ببيان جاهز مثل استمارة «وظيفة شاغرة».
الكاتب: أمجد عرار
مختارات