المثقف العربي ووجع الأمة!
البلدان تبنى بسواعد بنيها، والعمران يكون على يد المخلصين لأمتهم وحضارتهم.
والناظر في مسيرة قيام الدول ومقابله من زوال الأمم، يدرك أن النهوض يتم بسواعد الرجال، وأن الزوال يكون بالتخاذل، والانغماس في الملذات الفردية، والانكفاء على الذات.
والبلدان العربية حباها الله بمقومات النهضة والصعود، فقد جعلها الله وسط الكرة الأرضية، وواسطة عقد البشرية، ووهبها الخلاق الحكيم من الكنوز والخيرات ما لا نظير له في كافة بلدان العالم، وقد جعل الله نمو البشر فيها نمواً طبيعياً، فأكثر سكان بلدان العرب شباب نضر، يصلحون للعمل والانتاج.
وفوق كل ذلك أعطى الله هذه الدول ديناً قويماً، كله خلق وقيم؛ نستطيع بها أن ننير الكرة الأرضية عن آخرها، وننشر فيها السماحة والعدل والخير، ولكن كما قال الشاعر:
لعمركَ ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكنَّ أخلاقَ الرجال تضيقُ
والحقيقة المرّة أن المثقف ليس سوى ضحية لتردي الوضع الثقافي العربي العام، بسبب عدم انفتاح المؤسسات التعليمية على أطروحاته، وتغلب الأمية وانسحاب القراءة، والأدهى من ذلك الفصل المتعمد بين المثقف ومباشرة الحياة العملية.
كما أن تعريف المثقف محل إشكال كبير، ولم يتم التوافق أبداً بيننا في العصور الحديثة على تعريف جامع مانع للمثقف، والثقافة.
فكثير من التعريفات الحديثة وقدر ممّا اصطلح عليه الناس تجعل المثقف هو ذلك الإنسان الفارغ الذي شغل نفسه بالأغاني وما يدور حول فلكها، وانسلخ عن هويته، وابتعد عن مسالك النهوض بأمته، أو أصبح ناعقاً بثقافة المستعمر، ولسان حال الأجنبي، فضاعت بوصلته، وتاه عن طريق الرشاد.
يقول الدكتور نديم البيطار: " الميزة الأساسية التي تميز المثقف الحقيقي، ليست الشهادات الجامعية العليا، ليست الدكتوراه، وليست حتى عدد الكتب التي يكون قد قرأها، بل هي استيعابه وتمثّله ".
وأحياناً يتضخم عند المثقف وعند العامة دور المثقف حتى يتغول المثقف على دور السياسي، مما يفسد السياسة والثقافة معاً، وهنا أستعير من مقالة الأستاذ دفع الله حسن بشير: " ينظر المثقف الشرقي إلى نفسه على أنه إنسان غير عادي، ولا يشبه عامة الناس في شيء، وفي بعض الأحيان قد يتعالى عليهم بفلسفات محيرة كي يثبت تفوقه وسمو مكانته، فهو يرى في نفسه المنقذ الأول لمجتمعه من السقوط في براثن الجهل والتخلّف، والمدافع الأول عنه أمام السلطة السياسية، ودائما يشاع بين أوساط المثقفين، أن هنالك مشاكل وقضايا أوجدتها المؤسسات السياسية القائمة، أو هي نتاج للتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية، وأن الحلول لهذه القضايا يُمكِن استنباطها من المثقفين فقط ولا أحد غيرهم ".
أيضاً بعض مثقفينا للأسف يجعل الثقافة الغربية العصرية هي معيار الصواب والخطأ، فينسلخ بذلك عن هويته وإرثه التاريخي.
يقول صاحب كتاب(هموم المثقفين): " المبادئ التي ينبغي أن تُقام عليها طرائق الحياة وأساليب التعامل، ثابتةٌ ثبات الحقائق العلمية الموضوعية، فلا سبيل إلى تبديلها أو تحويرها؛ مهما تعاقبت العصور وتغيَّرت ظروف العيش؛ فما هو صواب يظل صوابًا إلى الأبد، وما هو خطأ يظل خطأً إلى الأبد كذلك، وكان لتلك المبادئ الثابتة، بُعْدٌ روحيٌّ، يقضي بأن يعلو الإنسان بنفسه عن شهوات جسده، فلا يُلْقي بزمامه إلى غرائزه، بل عليه إلجامها، ليحيا حياة العفة والتضحية والطهر والنقاء ".
إننا اليوم في عصر بات يضطرب بين جنباته من أفكارٍ تزعزع ما كنا قبلناه قبولنا للمسلَّمات الثابتة؛ فماذا يصنع المثقف العربي؟ مع سيل الأفكار الوافدة، والرؤى الواردة، وكيف يتعامل معها المثقف ويطوعها لصالح أمته وانتمائه، وكيف يحصن نفسه من الفتنة بالوافد والانجرار وراء سراب الحضارات الأخرى.
إن المثقف اليوم عليه حمل ثقيل، ومسئولية جسيمة، وواجب يمليه عليه حق الدين والوطن، وأول الخطوات في سبيل التأثير هي أن يتحرر المثقف من نير الاسترقاق لحضارة الغير، وينعتق من أثر الشهوات والمصلحة الضيقة؛ لينطلق إلى معالي المجد، ويصوب نحو الاصلاح، ويضع بصمة الحق وبذرة الخير عن طريق قلمه، ومشاركته في توجيه الأمة واستنهاض الهمم، فيُعبِّد طريق العلوم، ويرسم معالم النور بمشاركاته المفيدة وآرائه السديدة.
والواقع أن الأمة بفضل الله فيها مثقفون وأصحاب رأي لكنهم ينعزلون، ولا يتصدرون المشهد، وقد آن الأوان أن تكون الكلمة للمثقف الواعي، مثقف لا توقفه العوائق، ولا تشغله المعارك الجانبية، بل هو ماض في سبيل الاصلاح، ومنطلق في موكب الخير، شعاره دوماً [إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب](سورة هود).
مختارات