جواز أخذ الأجرة... واشتراطها على الرقية الشرعية
الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسَّلام على أشرفِ المرسَلين صلَّى الله عليه وسلَّم.
القاعِدة العامَّة جوازُ أخذ الأُجرةِ على القيام بكلِّ عمَل شرعي، وقدْ جاءتِ العديدُ مِن النصوص التي تُبيح لمَن يقوم بالرُّقية الشرعيَّة أن يأخذَ الأُجرة على تلك الرقيةِ، بل وجواز اشتراطِها قبلَ البَدء فيها، وهاؤم بعض الأدلَّة الشرعيَّة على ذلك:
1- عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه: أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أتَوْا على حيٍّ مِن أحياء العرَب، فلم يقروهم، فبَينما هُم كذلك إذ لُدِغ سيِّدُ أولئك، فسَعَوْا له بكلِّ شيء، لا يَنفعُه شيءٌ، فقال بعضُهم: لو أتيتُم هؤلاءِ الرهطَ الذين قدْ نزلوا بكم؛ لعلَّه أن يكونَ عندَ بعضهم شيءٌ، فأتَوْهم، فقالوا: يا أيُّها الرَّهط، إنَّ سيِّدَنا لُدِغ، فسَعينا له بكلِّ شيء، لا يَنفعُه شيءٌ؛ فهل عندَ أحدٍ منكم شيءٌ؟ فقالوا: إنَّكم لم تقرونا، ولا نَفعل حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فجَعَلوا لهم قطيعًا مِن الشاء، فجعَل يقرأ بأمِّ القُرآن، ويَجْمَع بُزاقَه، ويتْفُل، فبَرَأ، حتى لكأنَّما نَشِط مِن عقال، فانطَلق يَمشي ما به قَلَبةٌ، فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نَأخُذُه حتى نسألَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فسألوه، فضَحِك، وقال: (وما أَدْراك أنَّها رُقية؟! خُذُوها واضرِبوا لي بسَهْمٍ)؛ رواه أحمد والبخاري ومسلم.
لم تقرونا: لم تُقدِّموا لنا كرَمَ الضيافة.
2- عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أنَّ نفرًا مِن أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرُّوا بماءٍ فيهم لديغ، أو سَليم فعرَض لهم رجلٌ مِن أهل الماء، فقال: هل فِيكم مِن راق؟ إنَّ في الماءِ رجلاً لديغًا، أو سليمًا، فانطلق رجلٌ منهم، فقرأ بفاتحةِ الكتابِ على شاء، فبَرأ، فجاءَ بالشاء إلى أصحابِه، فكَرِهوا ذلك، وقالوا: أخذتَ على كتابِ الله أجْرًا! حتى قدِموا المدينة، فقالوا: يا رسولَ الله، أخَذَ على كتابِ الله أجرًا! فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ أحقَّ ما أخذتُم عليه أجْرًا كتابُ الله)؛ رواه البخاري.
السَّليم: اللَّديغ؛ قيل: سُمِّي سليمًا رجاءَ سلامته.
3- عن خارجةَ بنِ الصلت التميميِّ، عن عمِّه: أنَّه أتَى رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأسْلَم، ثم أقبل راجعًا مِن عندِه، فمرَّ على قومٍ عندَهم رجلٌ مجنون، مُوثَق بالحديد، فقال أهلُه: إنَّا حُدِّثْنا أنَّ صاحبكم هذا قد جاءَ بخير؛ فهل عندَك شيءٌ تداويه؟
قال: فقلنا: نعَمْ، فرقيتُه بفاتحةِ الكتاب، فبَرأ، فأعطوني مائةَ شاة، فأتيتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبرته، فقال: (هل قُلتَ غير هذا؟) قلت: لا، قال: (خُذها فلَعمري لَمَن أكَل برُقيةِ باطل، لقدْ أكلْتَ برُقيةِ حق)؛ رواه أحمدُ، وأبو داود، والنسائي في " الكبرى ".
وفي رواية: " فرَقاه بفاتحةِ الكتاب ثلاثةَ أيَّام غدوةً وعشية، كلَّما ختمَها جمع بزاقَه ثم تفَل، فكأنَّما أنشط مِن عقال، فأعْطَوه شيئًا " ؛ رواه أبو داود.
وفي رواية أخرى: " فرقيتُه بأمِّ القرآنِ ثلاثةَ أيَّام، كلَّ يومٍ مرَّتين " ؛ رواه ابن أبي شيبة.
احتِرازان واجبان:
عَلِمْنا من الأحاديث السابقة مشروعيةَ أخْذِ الأُجرة على الرقيةِ بالقُرآن، واشتراطها قبلَ البَدْء فيها، وأنَّه أمرٌ مُباحٌ لا حرَج فيه، ولكن أرْجو بيانَ نُقطتين شديدتي الأهمية:
الاحتراز الأول: فضيلة الاحتساب:
إنَّ أخْذ الأجرة وإنْ كان مباحًا على الرقية بالقُرآن، أو على تعليم القرآن، فإنَّ هذه الأجرةَ تَنقصُ ثوابَ المرءِ في الآخرة.
وليس هناك تعارضٌ البتةَ بين الإباحةِ ونُقصان الأجْر في الآخِرة؛ إذ الإباحةُ تَعني عدمَ وقوع الإثم عندَ القيام بالفِعل فحسب، وكم مِن أمرٍ أباحه الله تعالى برحمتِه وهو يَنقصُ أجرَ المرء في الآخرة.
فمِن ذلك حِلُّ الغنائم؛ فقدْ أباح الله برحمته الغنيمةَ للأمَّة المحمديَّة، كما جاءَ ذلك في العديد مِن النصوص، والتي منها: ما رواه جابرُ بن عبدِالله رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أُحِلَّتْ لي الغنائم)؛ رواه أحمد والبخاري ومسلم.
ومع هذه الشرعيَّة، فإنَّ تلك الغنائمَ تنقص أجرَ الغانمين ثُلثي الأجْر، ولا تُبقِي لهم إلا ثُلثًا واحدًا في الآخِرة، كما في الحديثِ الصحيح عن عبدالله بن عمرٍو: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (ما مِن غازيةٍ تغزو في سبيلِ الله فيُصيبون الغنيمةَ إلا تَعجَّلوا ثُلُثي أجْرِهم مِن الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإنْ لم يُصيبوا غنيمةً تَمَّ لهم أجْرُهم)؛ رواه أحمد ومسلم.
وهذا في كلِّ أمرٍ مِن الأمور، فالذي لا يَصومُ إلاَّ رمضان لا إثْمَ عليه، ولكن لا يُمكِن أن يكونَ أجرُه كمَن يظمأ ويجوع في سبيلِ الله؛ طلبًا لرضاه بصِيام النوافل طولَ العام.
والذي لا يُصلِّي إلاَّ الفرائضَ لا إثْمَ عليه، ولكن لا أحدَ أبدًا يظنُّ أنَّ الله يُساويه مع مَن يُكابِد الليلَ على حسابِ راحتِه؛ طلبًا لمرضاة الله - سبحانه وتعالى.
فالتطوُّع لخِدمة أخيك المسلِم ابتغاءَ مَرضاةِ الله محتسبًا أجرَك على الله تعالى له مِن الأجْر ما لا يَعْلَمه إلاَّ الله تعالى، فتذكَّر أخي الحبيبُ الحديثَ الصحيح عن أبي هريرة؛ قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَن نَفَّسَ عن مؤمنٍ كُربةً مِن كُرب الدُّنيا نفَّسَ الله عنه كُربةً مِن كُرَب يومِ القيامة، ومَن يَسَّر على معسِرٍ يَسَّر الله عليه في الدُّنيا والآخِرة، ومَن سَتَر مسلمًا سَترَه الله في الدُّنيا والآخِرة، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه، ومَن سلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا سَهَّل الله له به طريقًا إلى الجَنَّةِ، وما اجتَمَع قومٌ في بيتٍ مِن بيوتِ الله يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزَلَتْ عليهم السَّكينةُ، وغشيتْهم الرَّحمةُ، وحَفَّتهم الملائكةُ، وذَكَرهم اللهُ فيمَن عندَه، ومَن بَطَّأ به عملُه لم يُسْرِعْ به نَسَبُه)؛ رواه أحمد ومسلم.
فيا لها مِن كُربة ترْجو بتفريجِها عن أخيك أن يُفرِّج الله عنكَ يومَ القيامة، فيا مَن تطلب عونَ الله لكَ كُن في عونِ إخوانِك تجدْ ربَّك في عونِك.
وتذكَّر الحديثَ الصحيحَ عنْ جابر؛ قال: نَهَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الرُّقَى، فجاءَ آل عمرِو بن حزْم إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: يا رسولَ الله! إنَّه كانتْ عندنا رقيةٌ نرْقِي بها مِن العقْرَب، وإنَّك نهيتَ عنِ الرُّقى؟ قال: فعَرَضوها عليه، فقال: (ما أرَى بأسًا؛ مَنِ استطاع منكم أنْ يَنفعَ أخاه فلينفَعْه)؛ رواه مسلم.
فأَنفعُ لك أن تَحتسبَ أجرَك على الله تعالى، وتَذكَّر أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم لم يَقبَلوا الأجرَ إلاَّ لعظيمِ حاجتهم، وامتناعِ القوم مِن ضِيافتهم.
الاحتراز الثاني - عدَم المغالاة:
إذا أردتَ أخي الرَّاقي أخْذَ الأجرة، فهي حلالٌ كما أظهَرْنا مِن قبل، ولا حرَجَ فيها كما قلْنا، ولكن إيَّاك والمغالاةَ، فلا بدَّ مِن مراعاةِ حال المحتاج، فلا يَجوز لك أن تُكلِّفه ما لا طاقةَ له به، فإنْ كان موسرًا فلا حرَج فيما تطلُبه، وإنْ كان معسرًا فارفق بأخيك يرفق الله بك، وتذكَّر قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (اللهمَّ مَن وَلِي مِن أمْر أمَّتي شيئًا فشَقَّ عليهم فاشقُقْ عليه، ومَن ولِي مِن أمْر أمتي شيئًا فرَفَق بهم فارْفُق به)؛ رواه أحمد ومسلم.
فارفقْ به رَجاءَ أن تُصيبك دعوةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ويرفُق بك ربُّك جلَّ وعلا ويجِب أن تقومَ بها بلا أجْر إذا كان عاجزًا عن دفْع الأُجرة.
واللهَ نسأله أن يُوفِّقنا لما يُحبُّه ويرْضاه.
وآخِر دَعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.
سُبحانَك اللهمَّ وبحَمدِك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفِرك، وأتوبُ إليك.
مختارات