المخرج من الفتن (الجزء الثاني)
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ النَّاظِرَ فِي حَالِ الْعَالَمِ الْيَوْمَ، وَخَاصَّةً فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مُسْتَوَى أَفْرَادِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ يَجِدُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِفِتَنٍ عَظِيمَةٍ، وَمِحَنٍ جَسِيمَةٍ، تَعَاظَمَ خَطَرُهَا، وَتَطَايَرَ شَرَرُهَا، تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَوْضُوعَاتُهَا؛ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فِي الْعُقُولِ وَالأَنْفُسِ، فِي الأَعْرَاضِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ، تَتَضَمَّنُ فِي طَيَّاتِهَا تَحْسِينَ الْقَبِيحِ، وَتَقْبِيحَ الْحَسَنِ، وَلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ جَاءَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ غَوَائِلِ الْفِتَنِ وَشُرُورِهَا وَمُدْلَهِمَّاتِهَا، وَقَدْ وَصَفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- الْفِتَنَ بِقَوْلِهِ: " تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ، وَتَؤُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ، فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ، وَتَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلاَمَةٍ، وَتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ، وَمَنْ سَارَ فِيهَا حَطَمَتْهُ " ثُمَّ يُوَجِّهُ -رضي الله عنه- بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اجْتِنَابِ الْفِتَنِ فَيَقُولُ: " فَلاَ تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ، وَأَعْلاَمَ الْبِدَعِ، وَالْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ، وَأقْدَمُوا عَلَى اللهِ مَظْلُومِينَ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ " [موقف المسلم من الفتن، عبد الله الجار الله]
«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»
معركة الوعي بين الحق والباطل لا تنقطع ما انقطع الليل والنهار، وسفينة الحياة لو أصابها عطب الانهيار القيمي والأخلاقي غرقت بالجميع، كما أن الاعتذار بالورع أو الفتن لخذلان ما علمت أنه حق أو ما اتضحت دلائله، من السقوط نفسه في أتون الفتن؛ لأن وجود الفتن لا يعني أن يتساوى الحق والباطل.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: " وكثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل، فإن كلاهما فيه ترك، فيشتبه ترك الفساد لخشية الله تعالى بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة، جبنًا وبخلًا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع) [قال الترمذي: حديث صحيح]
• عن أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استيقظ من نومه وهو يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وعقد سفيان بيده عشرة- قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث) [رواه مسلم]
وتفسير (الخبث) عند بعض أهل العلم بالزنا وأولاد الزنا على التخصيص، وقيل هو الفسوق والفجور عموما، ورجح الحافظ الثاني لأنه قابله بالصلاح.. فهذا مع الصالحين فكيف مع قلتهم أو مع عدمهم نسأل الله أن يتجاوز عنا بفضله ويتغمد زللنا برحمته.
قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25] عن عمر بن عبد العزيز قال: " كان يقال: إن الله -عز وجل- لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا فلم ينكروه استحقوا العقوبة كلهم ".
فهذا يقتضي أن للمجاهرة بالمنكر من العقوبة مزية ما ليس للاستتار به، وذلك أنهم كلهم عاصون من بين عامل للمنكر وتارك للنهي عنه والتغيير على فاعله إلا أن يكون المنكر له مستضعفا لا يقدر على شيء فينكره بقلبه فإن أصابه ما أصابهم كان له بذلك كفارة وحشر على نيته.
قال الآلوسي في تفسيره: " فسرت الفتن في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً؛فسرت بأشياء، منها: المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على البدع إذا ظهرت. ومنها أشياء غير ذلك ".
أما قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15] فيقول ابن العربي: أخبرنا ربنا أن كل نفس بما كسبت رهينة، وأنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد، وإنما تتعلق كل عقوبة بصاحب الذنب، بيد أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عنه فكلهم عاص، هذا بفعله، وهذا برضاه به. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل؛ فانتظم الذنب بالعقوبة، ولم يتعد موضعه، وهذا نفيس لمن تأمله.
قال أهل العلم: " فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم لاسيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {ولينصرن الله من ينصره} واعلم أن الأجر على قدر النصب، ولا يتركه أيضا لصداقته ومودته، فإن الصديق للإنسان هو الذي يسعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب آخرته أو نقصها وإن حصل بسببه نفع في دنياه ".
«الدعاء بالثبات والسلامة من شرها»
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]
• كان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فقيل له في ذلك؟ قال: (إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ). [الترمذي]
قال الغزالي: " إنما كان ذلك أكثر دعائه لاطلاعه على عظيم صنع اللّه في عجائب القلب وتقلبه، فإنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب، فإذا أصابه شيء وتأثر أصابه من جانب آخر ما يضاده فيغير وصفه، وعجيب صنع اللّه في تقلبه لا يهتدي إليه إلا المراقبون بقلوبهم والمراعون لأحوالهم مع اللّه تعالى ".
• في الحديث الشريف: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) [مسلم] وفي دعاء عمر -رضي الله عنه-: " نعوذ بالله من شر الفتن ". وقال أنس -رضي الله عنه-: " عائذاً بالله من شر الفتن ".
• في الحديث أيضا: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) [النسائي] قال ابن القيم: " جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا وهو الشوق إلى لقائه، وأطيب ما في الآخرة وهو النظر إليه، ولما كان كلامه موقوفاً على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الدين قال: (في غير ضراء مضرة) سأل شوقاً إليه في الدنيا بحيث يكون في ضراء غير مضرة أي شوقاً لا يؤثر في سلوكي وإن ضرني مضرة ما، ومعنى ضراء مضرة: الضر الذي لا يصبر عليه (ولا فتنة مضلة) أي موقعة في الحيرة مفضية إلى الهلاك. ومن الدعاء النبوي كذلك: (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) [الترمذي]
• عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا تشهد أحدكم فليتعوذ من أربع: من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال ثم يدعو لنفسه بما بدا له). [النسائي]
• كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات). [متفق عليه]
• ومن الدعاء النبوي أيضا: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل عني خطاياي بالماء والثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) [متفق عليه]
قال الطيبي: " الفتنة إن فسرت بالمحنة والمصيبة، فشرها أن لا يصير الرجل على لأوائها ويجزع منها، وإن فسرت بالامتحان والاختبار، فشرها أن لا يحمد في السراء ولا يصبر في الضراء ". والنبي معصوم وإنما قصد تعليم الأمة أو إظهار العبودية.
• عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: " ليأتينَّ على النَّاس زمانٌ لا ينجو منه أحدٌ، إلاَّ الذي يَدعو كدعاء الغَرق ".
مختارات