إبطاء وقتِ البوارق
بسم الله الرحمن الرحيم
ثمةَ شخصياتٌ عديدة في مدوَّنة التاريخ حينما تفتش نتاجَها على عجلٍ، وتقلب سيرتَها تقليبا أوليَّا يستولي على ذهنكَ شعورٌ لا تملك دَفعَه أنَّ بينها اتصالا لا مرئيا والتقاءً حميميا يختصر المسافات المتباعدة، فبينا أنت تفتش ترجمةً لعالمٍ أو نِتاجا فِكريا لشخصيةٍ ما إذ تتداعى لك شخصيةٌ أخرى تلتقي معها بصورة خفية وتتصافحُ أكفُّ الشخصيَّتَينِ بحرارة وترحيب من وراء حجابِ الأزمنة، فتلتقيان إما في التجربة والموهبة والمكانة أو بعضِ ذلك، وقد تمتدُّ أحيانا نقاطُ الالتقاء التي تبدو لأول وهلة للناظِر لتشملَ طبيعة التفكير العقلي أو قصةَ التكوين الروحي أو لونَ المزاج النفسي، بل ربَّما وجدتَّ بينَ بعضِ هذه الشخصيات المتباعدة زمانا ومكانا التقاءً عميقا حتى في بعض المقولات والعبارات؛ ولا ريب أن تشابهَ القلوب يورثُ تشابه المقولات كما قال تعالى (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم) لكن ستلاحظ أنَّك كلما توغلتَ في الفحص والاقتراب استبانت لك بوضوحٍ وجوهُ الالتقاء، وكذلك أبصرتَ بجلاء وجوهَ الافتراق؛ تماما كما تشتبه على الناظر ملامحُ الوجوه البعيدة، وتتحدُ في ناظريه سُحنات العابرين في الطريق المجاور حتى إذا ما اقترب منها وحاذاها؛ أبصرَ العلامات الفارِقَة بوضوحٍ تام.
من تلك الشخصيات التاريخية البارزة التي لفتَ انتباهي ابتداءً نقاطُ الالتقاء بينهما من جوانب عديدة: شخصية أبي حامد الغزالي (505هـ)وشخصية عماد الدين الواسطي (711هـ)، فبين هذين العلَمَين الكبيرين تركيبةٌ مشتركةٌ لافتةٌ للانتباه: ماتَ كلا الرجلينِ عن قرابةِ خمسة وخمسين عاما غزيرةٍ بالبحث والتحولات، فكلاهما تقلَّب بين محطات فكرية استغرقتْ سنواتٍ من عمره إلى أن حطَّ رِحَاله في موضعٍ رآه صوابا، ثم التفتَ الرجلان إلى الوراءِ وكتبا سيرتهما الذاتية وأخذا يسردان للأجيال المقبلةِ حكايةَ التَّرحال، وكلاهما تحدَّث عن مروره بمرحلةٍ مبكرةٍ من الشكِّ والقلق وفقدان حالة التناغم مع المحيط الفكري الأوَّل، وأشارَ لاستشعاره هاتفا داخليا عميقا يدعوه إلى سرعة الالتحاقِ في قافلة البحثِ والتأمل؛ قال الغزاليُّ عن طبيعته الضاربة في أعماق جذوره منذ الصغر:
(كان التعطش إلى درَكِ حقائقِ الأمور دأبي وديني، من أول أمري، وريعان عمري، غريزةً وفطرةً من الله وضعها في جبلَّتي لا باختياري وحيلَتي).
وقال الواسطيُّ عن فقدان تناغمه مع بيئته الفكرية الصوفيَّة الأولى:
(من ألطافِ الله تعالى بي أن خلَقَ فيَّ غريزة في حال الطفولة كنت أعلم بها أن هؤلاء ليسوا على شيء، وأن الحقَّ وراءَ ما يَدَّعونه).
ثم بعد هاتين الجملتَين القصيرتين تقاذفت مركبَ الرجلين أمواجٌ عنيفةٌ من التقلَّبات.
وكان كلاهما ميَّالا ولو في زَمَنٍ من عمره إلى الوحدة والانعزال عن الناس، فقد قال أبو حامد عن وقته بالشام:
(أقمت به قريباً من سنتين لا شغلَ إلا العزلة والخلوة، والرياضة والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق) وحكى ابن رجب عن الواسطي بأنه كان (منزوياً عن الناس، لا يجتمع إلا بمن يحبه، ويحصل له باجتماعه به منفعة دينية).
وكلا هذين الرجلينِ رزقه الله نفسا شفَّافة وقلما أخَّاذا وبيَانا يسيل عذوبةً ورِقَّة وقدرة فائقةً على النفاذ لأغوارِ النفوس البشرية، ولهما تغلغل لطيف في تلافيف الأرواح واستكناهِ مقاصدِها وأحوالها، ربَّما وَرِثاه عن إدمان النظر في أحوال الصوفية ومنازل السير ودقائق التجريد السلوكي، ولم يقصُرا توظيفَ هذه الموهِبة الخلَّاقة التي حباهما الله إياها على المجال المعرفي الذي اشتركا أيضا في الكتابة فيه وهو معالم السير إلى الله وقواعد السلوك والتزكية، بل ظَهَرَ حتى في مجالِ نقضِ الأفكار المنحرفة والبحثِ عن أسباب تدهور كثيرٍ من الخلقِ في أوديةِ الضلالة، ومن ذلك الإشارةُ الغزاليَّة البديعة التي ذكر فيها أن أسبابَ وقوع طائفة في الكفرِ لا خفاءَ الأدلَّة عليهم وإنما مصدر كفرهم (سماعهم أساميَ هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وأمثالهم، وإطناب طوائف من متبعيهم وضلالهم في وصف عقولهم وحسن أصولهم ودقة عقولهم..وحكاية عنهم أنهم مع رزانة عقلهم وغزارة فضلهم، منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل.. فلما قرع ذلك سمعهم.. تجمَّلوا باعتقاد الكفر).
ويقابلُ هذه الاقتناصة البديعة من أبي حامد عبارةُ عماد الدين الواسطي حينما ذكر معرفةَ وذكاء كثيرٍ من أهل بيئتهِ الأولى بضلال طريقهم وفساد شيوخهم، لكنهم يعظِّمون مشايِخ الضلال ليحظوا بالمقابل بتعظيم الدهماء والعامَّة الذين يسرُّهم هذا التَّعظيم وتقرُّ به أعينهم؛ فقال الواسطي:
(وجدت فيهم أذكياء يعلمون أن الأمر ليس كذلك لكن حصل لهم بسبب تعظيمهم لشيوخهم رئاسة بين الناس وفتوحا، فهم يقيمون جاه شيوخهم إبقاء على حظوظ أنفسهم)
وكلا هاتين العبارتَينِ للشيخينِ الغزالي والواسطي يعرفُ كل قارئ عمق غور دلالتهما إذا أحسن التأمُّلَ في أحوال الناسِ وما وراء ظاهر مقالاتِهم.
والرجلان تفقَّها على المذهبِ الشافعي، وإن كان الواسطي انتقل آخرًا إلى المذهب الحنبلي واختصر فيه كتاب الكافي لابن قدامة في كتابٍ سماه (البُلغة)، وكلاهما له عناية بالغةٌ بتفاصيل السُّلوك وكتبَ في ذلك رسائلَ عديدة بقلمٍ عذب، فأما رسائل الغزالي في السُّلوك فتلقفتها الأيدي عبر العصور وملأتِ الدنيا وشغلت الناس بما فيها من خطأ وصواب، وأمسى أبو حامدٍ خلال قرون متطاولةٍ مِن أكثرِ علماء الإسلام تأثيرا وامتدادا فكريا سواءً ما كتبه في الفقه أو الأصولِ أو السلوك أو الردِّ على الطوائف المنحرفة كالفلاسفة والباطنية، ولئن حظيَ أبو حامد بالانتشارِ والذيوع لتوقُّدِ ذكائه وروعة تأليفهِ وقوة عارِضَتِه وأسبابٍ أخرى أكثرَ من الواسطي، فلَقد حظيَ الواسطي بتوفيقِ الله بإصابةِ الحقِّ أكثرَ من الغزالي، فإنَّ أبا حامد قد أعلَنَ في ختام سيرته الذاتية خلاصةَ رأيه ومنتهى تجربته أن (الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتَهم أحسنُ السير، وطريقَهم أصوبُ الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق) وهذه المحطةُ التي ألقى عندها أبو حامدٍ عصى ترحالِه وحلّ في سُرادِقُها رباطَ أمتعتِه ؛ مرَّ بها الواسطي أيضا، لكنها لم تبلَّ ظمأَه، فتجاوزَها، وقال عن أصحابِها:
(أنِست بهم بعض الأُنس.. وتغذَّى قلبي بذلك من جَوْعة، فإن الجائعَ يتغذَّى بمهما كان قوتا!).
ثم واصل الواسطيُّ المسيرَ يذرع الأرضَ ويرمق السماءَ بحثا عن وميضِ النور، إلى أَنِ اهتدى أخيرا –بعد تنقله بين خمس محطَّات فصّلَها في سيرته المكتوبة- لجماعةٍ من أهلِ الحديثِ في دمشق وطار بهم فرحا وثناءً ؛ وقال عنهم بلغةٍ احتفائيَّة:
(وجدتهم عارفين بحقائق العلم الذي أنزل من السماء على محمد مسارعين إلى إقامة أوامر الله تعالى.. وليست أصولهم أصول المتكلمين، بل أصول عقائدهم على الآيات والأخبار الصحيحة وأمرُّوا الصفات كما جاءت بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه.. ووجدت آثارها في قلوبهم عند صلاتهم وأذكارهم ودعوتهم إلى الله تعالى.. وهم أقوم بالدين من كل من رأيته في عصري هذا!)
وعلى رأس أهل الحديث الذين لقيهم عمادُ الدين الواسطي في دمشق شيخ الإسلام ابن تيمية، فحثَّه أبو العباسِ على مطالعةِ السيرة النبوية، فتركت هذه النصيحة التيمية النفيسة أثرها على شخصية الواسطي وتكوينه الفكري وفي ما سطّره من رسائل، ثمَّ كان ابن تيمية يعظمه ويجلُّه ويحتفي برسائِلِه في نقضِ خزعبلات الاتحادية ويشيرُ إليها، بل كان ابن تيمية يسمي عمادَ الدِّينِ الواسطيَّ: جُنَيدَ وقته!وكتبَ إليه كتاباً من مصر، وفي صَدْرِه: (إلى شيخنا الإِمام العارف القدوة السالك) وهذه العباراتُ الفخمة غزيرةٌ بالدلالةِ على فضلِ الواسطي، فأبو العباس كان دقيقا في عباراته، لم يكن يوما موزّعَ ألقابٍ بلا حسابٍ في سوق التَّمادُح والمجاملات.
وسبب إلقاءِ أبي حامدٍ –واللهُ أعلم- رباطَ أمتَعتِه عند أروقة الصوفيَّة وإعلانه أنهم محطَّته الأخيرة خلافا للشيخ الواسطي الذي غذَّ المسير إلى أهل الحديث، أن أبا حامدٍ وضع بيدِه الرِّتاجَ على الباب وأغلقَ الطريق على نفسه فلم يعلم أن وراءَ محطةِ الصوفية محطةً أخرى أكثر صوابا وأكمل اهتداءً ! وإنما توهّم أنهم غاية مراد الباحثِ عن الهدى، وذلك صواب إذا ما قورنوا بالخيارات الأخرى التي افترض أبو حامد في ابتداء رحلته البحثيَّة أن الصواب لا يخرج عنها بحال، وهم المتكلمون والفلاسفة والباطنية والصوفية، وهذا المعنى شرحه أبو العباس ملتمسا لأبي حامد العذر بقوله:
(سبب ذلك أنه قد علم بذكائه وصدق طلبِهِ مَا فِي طريق المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب، وآتاه الله إيمانا مجملا -كما أخبَرَ بِهِ عَن نَفسِهِ- وصار يتشوَّف إلى تفصيل الجملة فيجد فِي كَلامِ المشَايِخِ وَالصّوفِيّةِ ما هو أَقرَب إلَى الحَقّ ؛ وَأَولَى بِالتّحقِيقِ من كَلام الفَلَاسِفَةِ وَالمتكلّمِين والأَمرُ كَمَا وَجَدهُ لَكِن لَم يَبلغه مِن المِيرَاثِ النَّبوِيّ الذِي عِندَ خَاصَّة الأُمَّةِ مِن العلومِ والأَحوَالِ).
وأنتَ إذا أمعنتَ النظر فوقَ خطّ السنين الممتدّ استشعرتَ أنَّ هذين الرجلين: الغزاليَّ والواسطيَّ -رحمهما الله- وإن التقيا فكريَّا في بعض محطات العبور، إلا أنَّ بدايةَ الغزاليِّ خيرٌ من بدايةِ الواسطي، وخاتمة الواسطي خيرٌ من خاتمة الغزالي، فقد تَرَعْرعَ الواسطيُّ في كنفِ بيئةٍ موغِلةٍ في اعتقاد الخرافة والمخاريق، ولم يكن نموُّ عقلِهِ في الأطرافِ من تلك البيئة الغرائبية، بل إنَّ أباه القريب الذي وُلد مِن صلبه هو شيخُ الطائفة الأحمدية الرفاعيَّة البطائحية الغالية، ولاشكَّ أن قوة القرابة وانعقاد آصرة النَّسَبِ سببٌ قوي باعثٌ للتمسُّكِ بما عليه الآباء والأجداد، لكنَّ الفتى الواسطيَّ الباحثَ عن الحقِّ منذ طفولته اطَّرحَ كلَّ ذلك الجاهَ المنظوم، وانطلق ينشد الصَّواب نشدانَ الضالّة، إلى أن لمعتْ له بوارقُ أهلِ الحديث، ثم نشَط في الردِّ والتحذير من هذه الطوائف الصوفية البدعية التي فارقَها بعدَ اهتدائه إلى السنَّة في الجملة، وكان يرى أن هذه الطوائف الصوفية الغالية هم سَبَبُ تسلُّطِ الكفار على المسلمين في ذلك القرن، فقال بوضوح:
(والذي أعتقده أن التتر لم تستولِ على الإسلام إلا بشؤم هذه الطوائف وظهورهم).
وحينما انتقلَ عماد الدين الواسطيُّ إلى ضفّةِ أهل الحديث وانتظم نفسه في سِلكهم، لم تبرح روحَه الصافيةَ مشاعرُ التوقِ إلى امتثالِ قواعد السلوك، ولم تغادره اللهفةُ إلى تفصيلِ مقاصد التزكية التي عرفها من قبلُ مكدَّرةً بأوحال التَّصوُّفِ ومُلتاثةً بحضيض الأقوال الرديئة حول الحلول والاتحاد والفناء، فسنَّ قلمَ الأديب وخَلَطَ مدادَ السلفي مع مادَّة الصوفي، وأخذ في تنميق رسائلَ مشرقةٍ في شرحِ السلوك الأثَرِي وحاول تخليصها من جملة المعاني الفاسدة، واستعملَ فيها بعضَ ألفاظِ المتصوفة ومراتِبهم وعباراتِهم، ثم انتفع برسائله تلك جماعةٌ من نسَّاكِ أهلِ الحديث الذين حطّ عندهم رحالَه؛ قال ابن رجبٍ عن رسائل الواسطي وانتفاع أهل الحديث بها:
(ألَّفَ تآليفَ كثيرة في الطريقة النبوية، والسلوك الأثري والفَقرِ المحمدي؛ وهي من أنفعِ كُتبِ الصوفية للمُريدين، انتَفَعَ بها خلقٌ من متصوِّفَةِ أهلِ الحديث ومتعبِّديها).
دأبَ عماد الدين الواسطي في هذه الرسائل على إرساء مفهومِ الطريقة المحمَّدية، وبيانِ مبايَنةِ الطرائق الأخرى لهذا الطريق العُلوي الشريف، فأول حرفٍ من كتابِهِ قواعد في السلوك إلى الله تعالى يضعُ الواسطيُّ هذا العنوان في أعلى الصفحة: (قاعدة مختصرة في طريق الفقر على منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم) ثم يقول خلالَ ذلك الفصل شارحا مرادَه -بتعبيرٍ أدبي-: (إياك أن تأخذ الفقر من أسفل، وتترك الشرب من رأس العين، وتشرب من المياه البعيدة عن منبوعها، التي قد خالطها السباخ المالحة، واصفرت ألوانها لبعد مائها عن منبوعِها) وفي هذا الكتابِ خاضَ في ذكر بعض طرائق الصوفية، وسمَّى الشاذليَّة، ثم قال عنها بلسانِ المجرِّب المغتبطِ بظفَرِهِ بأنوارِ الهداية: (هي رُوحانية غريبة، بينها وبين الطريقة المحمديَّة بونٌ من بعض الوجوه، وإنما يعرف ذلك البون من عرفَ الطريق المحمدي).
ولا أدري هل هذا هو سببُ صدوفِ المتصوفة قديما وحديثا عن عمادِ الدين الواسطي وعزوفهم عن رسائلِه التزكويَّة حتى إنهم لا يذكرونه رَغم حروفِه العذبة المنظومة في مقامات السلوك؟
أو أن السبب وراءَ ذلك العزوف هو حملة الواسطي الشديدة على عبارات الحلول والاتحاد ونفوره الشديد بعد الهداية من أيِّ كلامٍ يظهر منه معنى الاتحاد ولو بطريق اللزوم، كما يروي الذهبيُّ أن شيخه الواسطيَّ كان يعظِّمُ نجم الدين الكبرى ولكنَّه عدلَ عن ذلك التعظيم، يقول الذهبي حاكيا هذا الموقف: (كان شيخنا عماد الدين يعظِّمه ولكن في الآخر أراني له كلاما فيه شيء من لوازم الاتحاد..) بينما الصوفية المعاصرون يحسِّنون القول في أمثال ابن عربي؟
أو أن السَّبب وراء ذلك هو جنوحُ الواسطي لطريقة السلفِ في الصفات ومجانبته الأدلة الكلامية، حتى إنه ليحثُّ السالك حتى في رسائله السلوكيَّة المحضة على (مجانبةِ ما أحدثه أهل الكلام من الرأي والمعقول، ومطالعة كتب أهل السنة في إثبات الصفات؛ ككتاب التوحيد لابن خزيمة، وكتاب النقض للدارمي) بينما غالبُ الرواقات الصوفية المعاصرة تتجشأ من المشارب الكلامية؟
كلها تفسيرات محتملة قريبة، والأمر اليقينيُّ هو أنَّ ما وصَلَنا من هذه الرسائل حسنٌ نافعٌ في استصلاح السِّلوك للمتعبدين، وفيها إضاءاتٌ إيمانية مشرقة في معالمِ السير إلى الله وعمارة قلبِ السالكِ بمولاه.
من المعاني المشرِقة التي احتفى بها عمادُ الدين الواسطي في رسائله الرُّوحانيَّة معنى تأخُّرِ الفتوحِ الإلهية وإبطاء البوارق الرحمانية عَن سالكِ الطريق، فحينما يقرِّرُ العبدُ الاستقامةَ على الطريقِ المستقيمِ ويعزمُ على استصلاح حالِهِ في طريق السير إلى الله، ويجمع الهمّ على الصُّعود في معارجِ الاهتداء، فلا بدَّ أن يوطِّن نفسه أن وراءَ نِيَّته الشريفة هذه، مرحلةَ اختبارٍ لصدقِ عزيمته وأرضُ ابتلاء لحقيقةِ همِّته، فإنَّه لمنَ المعلوم أن الأولياءَ والصالحين وكلَّ مَن بلَغ أيَّ رُتْبةٍ في العلمِ أو السلوكِ إنما راضَ نفسَه عليها وعلى تكاليفها زَمَنا، لا يبغي عنها حِوَلا، حتى إذا ما ألِفَتْها روحُه، واعتادت عليها نفسه، وزاحمتْ في داخله ما يعارضها من الأقوال والأحوال والعوائد؛ أصبحتْ سجيَّةً معتادةً له وأذهبت عناءَ المكابدة وتفلُّتَ الخطام، وأغلبُ السَّالكين الذين تنقطع أنفاس إصرارِهم ويرتخي حبلُ العزيمة في أيديهم، إنما استسلموا خلالَ منطقةِ الابتلاءِ تلك؛ لحظةِ تصادمِ السجايا الجديدة المراد توطينُها بالعوائدِ القديمة المراد ترحيلُها، والسالكُ لا يعلم بحقيقة الصِّراع الداخلي المضطرم، إنما هو يجدُ في الخارجِ آثارَه فقط، وأبرزُ آثارِه: دبيبُ فتورٍ يحاولُ ثنيَه عن الاستمرار ويحفزه لتأجيل رحلة الانطلاق، ليترك ما عزَمَ على بلوغِهِ من المقاماتِ الرفيعة، ويحسم المعركة لصالحِ العوائد القديمة، وهو يستشعرُ كلَّما استسلم له وسقطَ لموضعه الأوَّل بنوع ارتياحٍ بعد أن كانت أعصابه مشدودة، وإنما هو ارتياحٌ عابر يخبو سريعا، ارتياحُ بحَّارٍ يريد السفرَ فعبثت بقاربِه الأمواج القريبة، فقفل للشاطئ بعد معاناةِ أوائل أمواجِ البحر!
شرح الواسطي في رسائله مرحلةَ معاناةِ المبتدئين وتفرق همِّهِم بسببِ إبطاءِ وقتِ البوارق، فقال:
(المبتدئ متفرق الهم، متشعب الخاطر بين أمورٍ متنوعة، أولها:تحصيلُ همَّةٍ يرتقي بها في علومه وأعماله وأحواله، فهو متعوب في تلونه فيها، تارةً يفقدها، وتارة يجدها.. وهو متفرقٌ –أيضا- من إبطاء وقت البوارق، فتارةً يلوح له قمر الإيمان حتى يتوهَّم أنه قطّ لا يتوارى عنه، فيعيش في تلك البهجة والنور زمنا ما أطيبه وما أحلاه! وتارةً يمرُّ على قلبه غيوم الطبيعة وغانها، فتحجبه عن ذلك حتى كأنه لم يعرف ربه، ولا وجد رائحة أنسه، ولا ذوق معرفته وقربه..)
ثم ذكر أثرَ دوام الهمَّة الجاذبة وتدرُّجِ البوارق والأحوال على العبد.
من أراد مفارَقة أحواله القديمة، فإنَّ عليه أن يروِّض نفسه على معاناةِ الأحوال الجديدة، ولو لم يجد لها اعتيادا وألفةً وانقيادَ جوارحَ في أوائل العزم، ولو كان يجرُّ أركانَه إليها جرَّا، ويُكره نفسه عليها إكراها، فإن معركة الاصطبار على المشاق أكثرها ضراوةً إنما يكون في أوّل هذا الطريق، كما قال الواسطي شارحا هذا المعنى في موضعٍ آخرَ ومقدِّرا مدَّة زمنية يزولُ بعدها في العادةِ كلَف التَّكليف، وينحلُّ عنه بعدها رباطُ العوائدِ القديمة:
(والوسيلة إلى الاستقامة في الأعمال: رياضة النفس على المحاسبة في الجوارح، والمراقبة في الخواطر، وإكراه النفس على التقاعد على النهوض إلى الأوامر، والصادق إن شاء الله إذا تدرب على هذه الرياضة سنةً، نرجو أن يذهب عنه كلف التكليف، وتصير التكاليف محبوبةً عنده، يتلذذ بعملها، ويتألم إذا فاته شيء منها).
واستمرَّ الواسطي يعود إلى معنى إبطاء وقت البوارق ويكرّ عليه بقلمه أثناء شرحِ بعض المطالب الإيمانية المعيّنة، فإنه حين ذكر الأسباب الموجبة لمحبَّة الله تعالى لعبده، قال:
(من الأسباب: التوجه إلى حصول محبة الله تعالى له، ومن كان متوجها إلى ذلك فإنه يطلب مراضي من يطلب محبته له بكل ممكن، ويتجنب مساخطه، ويحفظ دبيب الخواطر في سرِّه حذرا أن يجري فيها مكروه فيمقت.. فإذا فتح له بهذه الهمة وبهذا الأعمال، ورزق دوام الاستعانة بمولاه على حصول هذه المرتبة، ومضت عليه الأيام والشهور والأعوام، ووجده قائما فيها بالأوامر، منتهيا عن الزواجر، طاهرَ السرِّ عن الهيئات المؤخرة المبعدة، لا يوجد منه إلا الطهارة ظاهرا وباطنا، فمثل هذا يُرجى أن تناله هذه الرحمة الخاصة، برحمة الله ومشيئته ولا يستبطئها ولا بعد حين)
وانظر لتعبير الواسطي بمفردةِ (الاستبطاء) فإن طبيعةَ السالكِ لا سيما مع مفارقته عوائدَ نفسه أن يتعجَّل أوانَ الثمار، فإن لم يلمح بوارقَها انحلَّت عرى عزيمته، وأغلبُ ظني أن هذا المعنى الذي تردَّدَ في رسائل الواسطي بصور مختلفة، واستعملَ أسلوبَ الاستعارة في التعبير عنه، لم ينقلْه فقط نقلا مجردا من كتب السلوك التي سبقته، وإنما ورِثَه من معاناةِ بحثِه عن وميضِ أنوار الهدى سنواتٍ طويلة؛ واستبطائِه موعدَ الوصول، حتى قال عن نفسه مرةً:
(طالت في ذلك أسفاره، وامتدَّ أمده وانتظاره، نحوا من خمس عشرة سنة، يتشامُّ، فلا يجد بارقا، ويتطلَّع فلا يرى باديا ولا شارفا).
ولم ينفرد الواسطيُّ في الإشارة إلى معنى إبطاء وقت البوارق ثم لموعِها بعد المكابدة، فقد سبَقَه لتفصيل ذلك المعنى صاحبُه أبو حامدٍ الغزالي، فـــ(إبطاء وقتِ البوارق) من المعاني المشتركة بين الرجلَين، فقد ذكر أبو حامدٍ في كتابِه (المنقذِ من الضلال) إشارةً عابرةً سريعةً محتمَلة، لكنَّه فصَّل القولَ في كتابه (الإحياء) وشرحَ فيه معنى المداومة على التكلُّف والمكابدة في البدايات، حتى تصبحَ طبعا لا يصبر عنه السالك، وضرب له المثال ليتضح المعنى، فقال:
(ومن أكثر من ذكر شيء وإن كان تكلفا؛ أحبَّه فكذلك أول الذكر متكلف إلى أن يثمر الأنس بالمذكور والحب له ثم يمتنع الصبر عنه آخرا فيصير الموجب موجبا والثمر مثمرا، وهذا معنى قول بعضهم كابدت القرآن عشرين سنة ثم تنعمت به عشرين سنة ولا يصدر التنعيم إلا من الأنس والحب ولا يصدر الأنس إلا من المداومة على المكابدة والتكلف مدة طويلة حتى يصير التكلف طبعا فكيف يستبعد هذا، وقد يتكلف الإنسان تناول طعام يستبشعه أولا ويكابد أكله ويواظب عليه فيصير موافقا لطبعه حتى لا يصبر عنه فالنفس معتادة متحملة لما تتكلف)
وسئِل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مَن يريد الاستقامة على الطريق لكنه كلما سار عليه قليلا خارَتْ قواه وانحلّت عرى عزيمته، فذكر للسائل أمورا تنفعه يستقيم بها على الطريق، ثم أشارَ لمعنى إبطاءِ وقت البوارق الرحمانية، فقال:
(وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا يلبث أن يؤيده اللّه بروح منه).
أما غلاةُ الصوفية فقد تواردوا على هذا المعنى أكثرَ من الواسطيِّ، وشحنوا به رسائلَهم وأشعارهم ومواجيدَهم، لكنَّهم حمَّلوه دلالاتٍ هائلة غيرِ شرعية، واستعملوا في التعبير عنه حروفا لا تليق بالعلاقة مع ربِّ العزَّة سبحانه وتعالى، فإنهم افترضوا علاقةً بين الخالق والمخلوق تشابه علائقَ المخلوقين، فأنشدوا الأشعار المتضمنة صِدق رغبةِ المريدِ وإقبالِه، وتمنّع الرب المحبوب عن مطاوعة الوصال، وأنشدَ بعضهم في مثل هذا:
أنا صبٌّ بمن هويتُ ولكن... ما احتيالي لسوء رأى الموالي؟!
وقال الآخر في معناه: سقيم لا يُعاد ومريد لا يُراد!
والإشكالُ لا يقف عند ابتداعِ هذه الأحرف وقلّةِ احتشامِها وتوقِّيها، وإنما يمتدُّ لإيحاءاتها الخطيرة بأن الإعراض ربما يكون من جهةِ الربِّ بلا سببٍ من جهةِ العبد، وأن العبدَ ربما استفرغَ المطلوب منه لكنه حُجِب ظلما لغير تقصيرٍ، وهذا لا يحصل بحالٍ في العلاقةِ بين العبد وربِّه تعالى، وهو يتناقض مع الدلائل الشرعية المتضافرة، قال ابن تيمية مبيِّنا هذا الشَّطح الصوفي:
(وهذا الموضع يغلط فيه كثير من الناس في تمثلهم بالأشعار وفي مواجيدهم فإنهم يتمثَّلون بما يكون بين المحب والمحبوب والسيد والعبد..وهذا التمثيل يشعر بأن العبد صادقُ الإرادة تامُّ السعي وإنما الإعراض من المولى، وهذا غلطٌ بل كفر، فإن الله يقول من تقرب إليَّ شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)
فهؤلاء المتصوفة بالغوا في تشقيقِ معنى إبطاء وقتِ البوارق وحمَّلوه دلالات أجنبية عن الشرع والعقل، فالشَّطح الصوفي يوحي بصلاح حال العبد ووقوع الظُّلمِ من جانب الرب، والمعنى المسلكي الصحيح الذي يراد التنبيه عليه أن المطالب الرفيعة في العلم والعمل تُنال بالاصطبار على عوائق الطريق وأن ثمةَ مرحلةً حتميةً تَلي عزيمةَ السير إلى الله، وتَسبق بوارقَ التأييدِ الرَّحمانيَّة؛ هذه المرحلة مفازةٌ تُقطع براحلتي الصَّبرِ والالتِجاء.. وفي هذه المفازةِ ضلَّتْ أكثرُ الرواحل!
مختارات