{وَآتِينَ الزَّكَاةَ}
جاءت هذه الآية في سياق آيات التخيير التي خاطب الله بها نساء النبي صلى الله وعليه وسلم، ومن المعلوم أن زمن نزول هذه الآيات كانت زمن فقر وحاجة، فهن رضوان الله عليهن سألن الزيادة في النفقة وحتما لم يسألن إلا لشدة الفقر والحاجة الذي كنَّ فيه، ومن أراد أن يتصور الحالة الاجتماعية لبيت النبوة فليصغ لحديث عائشة رضي الله عنها لـمَّا قالت لعروة: " ابن أختي؛ إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال؛ ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار "، فقال: يا خالة؛ ما كان يعيشكم؟ قالت: " الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا " ([1])، لم يكن بيت النبوة قصراً منيفا ولكنه كان حجرات ضيقة؛ كان ينام صلى الله عليه وسلم على الحصير حتى أثَّر فيه؛ في قصة معروفة، وفي المقابل كان يفيض حباً ووداً وسكناً ومودة في حين تضيق القصور على أهلها.
يأتي القرآن في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة آمراً أمهات المؤمنين بإيتاء الزكاة بعد أن أدبهن بآداب الانتماء لهذا البيت الأسنى من بيوت الأنبياء مثمِّنا اختيارهن الله ورسوله وتسريحهن للدنيا، وتسجيل القرآن وتخليده لمثل هذه الحادثة الأسرية يحمل في ثناياه عبر ودروس لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، كلا ليس هو مجرد موقف أسري عابر، ولكنه تعليم إلهي قَلَّ من يتدبره، وبتدبر هذه الآيات وأخواتها يعمر القلب بنور الإيمان، وتشاد البيوت بضياء القرآن، وتقام كيانات الأسر على هدي الوحي.
وحين نقف متدبرين لهذه الآيات يحار العقل في أمر الله لهن بإيتاء الزكاة في حين كان لا يوقد النار في بيت رسول الله الشهر والشهرين، وتنقشع الحيرة التي تعرض للمتدبر حين يقرأ في كتب المفسرين أنها بشارة من الله لهن بفتح الدنيا عليهن، ذكر ذلك البقاعي في نظم الدرر.
ولا يظن ظان أن مثل هذا الموقف خاص بأمهات المؤمنين، فكم يتكرر الابتلاء الإلهي للمؤمن بين الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة، وقد يأتي بهيئة وظيفة محرمة تدر أرباحاً، وقد يأتي بهيئة خاطب ثريٍّ عريٍّ عن الإيمان، ولا نحصي أضْرُب هذا الاختبار فهي لا تخفى على مؤمن يتخذ من القرآن منهجاً في الحياة، والحر تكفيه الإشارة.
إن هذه البشرى في ثنايا قوله تعالى: ﴿وَآتِينَ الزَّكَاةَ﴾ ليغرس في المؤمن والمؤمنة اليقين بالله، وبقدر هذا اليقين من عدمه يكون اختياره؛ هذا اليقين يثمر ويزهر حين يترسخ في قلب المؤمن أن اختيار الله ورسوله والدار الآخرة لا يعني الهوان في الدنيا، كلا حاشا الله أن يضيع أهله، فلا يتحسر على فوات حظه من دنيا بل يمضي في اختياره واثقاً بربه وظنه الجميل بربه ﴿إِنَّهُ كانَ بي حَفِيًّا﴾ ؛ حينها لن يبال المؤمن بما يُلقى إليه من اتهامات بقِلَّة عقله، وأنه كيت وكيت، بل يقف وحده وليس وحده بل معه الله فيصمد في الاختيار إذ عَلَّمَه القرآن أن اختيار الله والدار الآخرة لا يعني خسارة الدنيا: ﴿إِن يَعلَمِ اللَّـهُ في قُلوبِكُم خَيرًا يُؤتِكُم خَيرًا مِمّا أُخِذَ مِنكُم وَيَغفِر لَكُم﴾ ؛ تتزين له الدنيا فيعرض عنها خشية ربه؛ أتظنون الله خاذله؟ كلا يقينا بالله.
يستحضر المؤمن في شدة اختباره أن الله حقق لأمهات المؤمنين هذه البشرى فكن ينفقن، فكانت زينب بنت جحش أما للمساكين، وكانت عائشة رضي الله عنهما مثلا للإنفاق حتى عاتبها ابن أختها عبد الله بن الزبير في كثرة الإنفاق!! ومن قبلهن لما اختار إبراهيم عليه السلام الله والدار الآخرة على الدنيا بشره الله بـ ﴿بِغُلامٍ عَليمٍ﴾، ﴿بِإِسحاقَ وَمِن وَراءِ إِسحاقَ يَعقوبَ﴾، رغم أنه سأل الله واحداً فبشر بالولد والحفيد كما يروى عن السلف في التفسير.
ولن نبرح أفياء هذه الآية دون الإشارة أن فيها من تكريم الإسلام للمرأة إذ " يُفهم من إيتاء الزكاة هنا، أن للمرأة ذمتها المالية الخاصة المستقلة عن ذمة الغير من أب أو زوج أو غيره، بدليل أن الله كلفها بإيتاء الزكاة، لكن الحضارة الحديثة جعلت مال المرأة قبل الزواج للأب، وبعد الزواج للزوج، ثم سلبت المرأة نسبتها إلى أبيها، ونسبتها بعد الزواج لزوجها " أ. هـ من تفسير الشعراوي.
([[1) رواه البخاري ح (2567)، مسلم ح (2972)
مختارات