في مشهد متكرر في أفلام توم وجيري الشهيرة، يركض جيري مسرعاً على سطح مرتفع، ويتجاوز السطح من شدة السرعة ويظل معلقاً في الهواء لبرهة، ثم يلقي بنظره للأسفل فيذهل لبعد المسافة، ثم يسقط بعنف.إذا تجاوزنا المضمون الكوميدي في المشهد، يمكننا أن نلتقط فكرة منه، فالمفارقة الكامنة في المشهد تظهر في ارتباط السقوط بإدراك الموقع لا بتجاوز السطح ومناقضة القانون الفيزيائي الملموس. وبعيداً عن ذلك فالعلاقة بين الإدراك الذاتي وحقائق الواقع تظل ملتبسة، وشديدة الخطورة. في الواقع قد تمرض بمجرد إدراكك لوقوعك في المرض، وقد تتوقف عن فعل شائن بمجرد إدراكك لصدوره منك.

السلوك والفعل البشري يتأسس عادةً على صورة محددة عن الواقع، بكافة تفاصيله المتداخلة، وأي محاولة لتعديل أو تطوير السلوك الإنساني لابد أن تمرّ من بوابة الإدراك والوعي. هذه حقيقة مهمة تمثل أحد أهم مفاهيم كتب ودورات التأثير والنجاح والتنمية الذاتية، والإدارة، وغيرها، برغم اكتناز بعض هذه الكتب والدورات بالأكاذيب والهراء.

والمشكلة أن الإنسان عموماً لديه نزوع فطري للاطمئنان لفهمه الداخلي ولحدسه وقناعة مبرمة بتصوراته عن الواقع، ولولا ذلك لما أمكنه العيش بسلام، ومع ذلك يصعب عليه تجاوز المشكلات وتطوير السلوك دون مساءلة جادة لتلك الخيالات والتصورات في كثير من الأحيان.

معادلة الإدراك/الواقع ليست خطوة علاجية فحسب، بل هي ضرورة لإعادة التأهيل، فأول خطوة لتعديل السلوك وحل المشكلات الشخصية هي إعادة النظر في دقة ومصداقية إدراكك للواقع، والمسببات الحقيقية للمشكلات المحيطة. وبمجرد ضعف يقين الإنسان في مدى فهمه للمشاكل أو الصعوبات القائمة يسهل عليه تفهّم الأطراف والملابسات الأخرى، ويكون مهيئاً من الناحية النفسية للقبول بالعلاج، وبإعادة تحليل ومناقشة المسائل بصورة مغايرة.

ليس بالضرورة أنهم خونة لرفضهم مساعدتك قد يكون السبب أنك تفتقر للحد الأدنى من الذكاء الاجتماعي. وقد يكون سبب إخفاقك محدودية قدراتك العقلية وليس الضغوط العائلية كما تتخيّل. وربما يكون سبب طلاقك ليس السحر ولا رداءة الشريك بل فشلك في إدارة وتسوية الخلافات العالقة. حتى عدم عثورك على صديق ربما يكون بسبب مزاجك المتقلب ونفسيتك المضطربة وليس بسبب بؤس الظروف. بلادتك العلمية أيضاً قد تكون راجعة لنفاد صبرك وقِصر نفسَك وليس للحادثة الفلانية مع الشيخ الفلاني. وربما…الخ.

صحيح أن مواجهة النفس والتدقيق في الإدراك للواقع بشتى تفاصيله مؤلم، ولكنه للأسف ضروري، ومن يحسن ذلك تقلّ حاجته للاستشارة أو طلب الحلول.