وجوب التعزير في تعريض الموظف للهلاك بالنقل التعسفي
الحمد لله وبعد،،
حين يوجد رئيس لمؤسسة حكومية، أراد أن يفرض سياساتٍ معينة على المؤسسة، فعارضه أحد موظّفيه بالطرق النظامية للاعتراض، فاستغل هذا الرئيس سلطته، وقام بنقل الموظف نقلاً تعسفياً، لبلدة نائية، وانتهضت القرائن أن هذا الرئيس يستهدف بهذا النقل معاقبة الموظف المعترض وجعله عبرة لغيره من زملائه، ثم في طريق البلدة النائية وقع مكروه أو ضرر أو أذى أو هلاك لهذا الموظف بسبب أعباء التنقل، وشهد أهل الخبرة أن هذا الطريق طريق مخوف ودرب مهلكة مشهور بالوفيات، ففي هذه الحالة: هل تبرأ ذمة الرئيس أم يكون مسؤولاً ديانةً وقضاءً؟ وما مدى مسؤوليته؟
هذه صورة المسألة، والذي أراه أن هذا الرئيس يستحق عقوبة التعزير في القضاء الشرعي، وسأبيّن اعتبارات المسألة بحسب ما ظهر لي:
1-منع النقل التعسفي في القضاء المحلي:
سلطة الرئيس في نقل الموظف هي سلطة منوطة بالمصلحة، وليست سلطة مفتوحة بالتشهي والهوى، والقضاء المحلي مشحون بالأحكام القضائية في إبطال قرارات النقل التعسفي إذا ظهر فيها شائبة سوء استعمال السلطة، وسأذكر بعض النماذج:
في أحد الوقائع التي نظرها ديوان المظالم كانت الموظفة معلمة في القويعية، وحصل لها حادث سير، واحتاجت للعلاج الطبيعي، فطلبت النقل للرياض، فأصدر نائب وزير التربية والتعليم لشؤون تعليم البنات قراراً بعدم نقل الموظفة للرياض، فأصدر الديوان حكماً قضائياً بإلغاء قرار نائب الوزير، وجاء في الأسباب التي ذكرها الديوان:
(فإن الثابت من أوراق القضية أن المدعية تعمل معلمة في القويعية، وحصل لها حادث سير، وجاء في تقرير الطبيب المعالج أن المريضة تحتاج لعلاج طبيعي في الرياض، ولا تتحمل الجلوس في السيارة لمسافات طويلة، أو السفر عبر الطرق الصحراوية..، وحيث الأمر ما ذكر فإن الدائرة تنتهي إلى أحقية المدّعية بالنقل لمدينة الرياض)[رقم القضية: 1098/1/ق لعام 1425هـ].
فهذا إلغاء لقرار سلبي في عدم نقل الموظف بقرار تعسفي.
وفي أحد الوظائف بالجمارك قامت جهة الإدارة بجعل ترقية الموظف في مكان آخر لا يرغبه الموظف، ونتيجة المشاحنات بينه وبين إدارته وضعت جهة الإدارة موقع ترقيته في مكان لا يرغب فيه، فاعترض لدى الديوان، وقرر ديوان المظالم إبطال القرار، وكشف عن الدوافع المضمرة للقرار، وجاء في حكم ديوان المظالم:
(فإنه يستشف من الأمر أنه لم يكن إلا لمجرد التغطية على إبقاء المدّعي في جمرك الرقعي، دون تمكينه من الانتقال إلى مقر وظيفته الجديد –جمرك الدمام- دون سند نظامي، فيكون القرار الإداري قد شابه عيب في غايته، وانطوى على نوع من العقوبة، بعدم تمكين المدّعي من الانتقال إلى المقر الجديد الذي هو راغب فيه، وذلك هو عيب الانحراف بالسلطة)[رقم القضية:2324/1/ق لعام 1423هـ].
وتلاحظ في هذا القرار الإشارة الهامة لكيف يكون المقصود أحياناً بالنقل " عقوبة " الموظف والتغطية عليها بأن النقل لمصلحة العمل!
وفي واقعة أخرى قام أحد المسؤولين في وزارة الدفاع بنقل موظف عسكري من مدينة لأخرى، فاعترض الموظف، وحكم ديوان المظالم بإبطال قرار النقل لظهور أنه نقل تعسفي، وجاء في أسباب الحكم:
(والثابت أمام الدائرة أن جهة الإدارة خالفت بنقل المدعي من عمله إلى جهة أخرى، إذ لم تبيّن المصلحة في ذلك، بل الواضح أن العمل المنقول إليه غير ملائم للمدعي، فالقرار محل الطعن ظهر فيه إساءة استعمال السلطة من جهة الإدارة واستغلال نفوذها)[رقم القضية: 1277/1/ق لعام1426هـ].
وفي هذا التسبيب إشارة هامة إلى اعتبار ملاءمة العمل المنقول له الموظف.
هذه نماذج كافية في التدليل على اعتبار " بطلان النقل التعسفي " حتى وإن تظاهر الرئيس بأنه لمصلحة العمل وهو يخفي من خلاله معاقبة الموظف لمعارضته له.
2-التعزير في الجناية التي لا قصاص فيها:
يظن كثير من الناس أن الأذى والضرر والجناية إذا لم يكن فيها قصاص ولا حد أنها تذهب هدراً، وهذا غير دقيق، ففي الفقه الجنائي هناك عقوبات مقدّرة من أصل الشرع، وهي (الحدود والقصاص)، وهناك عقوبات غير مقدّرة من أصل الشرع بل ترجع لاجتهاد القاضي، وهي ما يسمى (التعزير)، فمن آذى الناس بالمباشرة، أو آذى الناس بالتسبب، فيستحق التعزير بحسب ما يليق بجرمه.
قال ابن قدامة في المغني (التعزير: هو العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها..، كسرقة ما دون النصاب، أو الجناية على إنسان بما لا يوجب حدا ولا قصاصا ولا دية..، ونحو ذلك يسمى تعزيراً)
وقال في الشرح الكبير (باب التعزير: وهو التأديب، وهو واجب في كل معصية لاحد فيها ولا كفارة، كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد..، والجناية على الناس بما لاقصاص فيه).
فتلاحظ أن الجناية على الناس بما لا قصاص فيه لا تذهب هدراً، بل يكون فيها التعزير، وما سبق هو نموذج مختار فقط، وإلا فإن كل كتب المذهب المشهورة المعتبرة في القضاء الشرعي المحلي تنص على أن الجناية التي لا قصاص فيها يكون فيها التعزير.
ولا يلزم أن يكون الأذى والضرر بالمباشرة، بل قد يكون بالتسبب، ولها أحوال معروفة في الفقه خارجة عن محل بحثنا هنا، وإلجاء الموظف المريض إلى طريق مخوف تعسفاً واضطهاداً فيه نوع تسبب بما يحدث له من الضرر في هذا الطريق، وخصوصاً إذا قرر أهل الخبرة أن هذا الطريق مخوف مشهور بوقوع الأضرار.
واعتبار الضمان في " الطريق المخوف " يذكره فقهاء الحنابلة في ضمان التلف في الأموال في المضاربة والوديعة ونحوها.
3-من أنواع التعزير عزل المسؤول:
التعزير في الفقه الإسلامي عقوبة واسعة جداً في سببها، وفي نوعها، وفي نص هام لشيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه:
(وليس لأقل التعزير حد، بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان من قول وفعل، وترك قول وترك فعل، فقد يُعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يُعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا، وقد يُعزر بعزله عن ولايته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك..، وكذلك الأمير إذا فعل ما يُستعظم فعزله عن إمارته تعزيرٌ له، وكذلك قد يُعزر بالحبس، وقد يُعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بمثل ذلك في شاهد الزور)[مجموع الفتاوى:28/344]
فتلاحظ في هذا النص الإشارة إلى أن " العزل من الولاية " كنوع من التعزير، وقد احتفى فقهاء المذهب بهذا، فذكره في الإنصاف وغيره من كتب المذهب المرجعية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42]
والله سبحانه أعلم،،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
مختارات