" كيف نغرس التقوى في قلوبنا "
" كيف نغرس التقوى في قلوبنا "
إذا حلت التقوى في قلوبنا، اطمأن القلب، وانشرح الصدر، وقد تضعف التقوى في القلوب، وقد تقوى حتى تكون كالجبال الشمِّ الراسيات، ويكون ضوؤها كالشمس، وأعظم التقوى أن نتقي الله عز وجل حقَّ تقاته " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ " [آل عمران: 102] أي: اتقوه على نحو ما أمركم به ونهاكم عنه، والذين يتقون الله حقَّ تقاته قليل، قال ابن عباس في تفسير الآية: " أطيعوا الله حقَّ طاعته " وبيّن مجاهد كيف يتَّقى الله حقَّ التقوى، فقال: " هو أن يطاع، ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر، فلا يكفر " [بصائر ذوي التمييز].
وسأورد أربعاً مما دلنا عليه الكتاب والسنّة لغرس التقوى في القلوب.
أولا: تعرف العبد إلى ربِّه:
أنزل الله تبارك وتعالى هذا القرآن العظيم، فإذا فقهه الناس وعلموه، أنشأ التقوى في قلوبهم " وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " [الزمر: 17-18].
وقد جعل الله القرآن كتاب هداية " هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ " [البقرة: 2] ومع أن القرآن كتاب هداية للناس جميعاً، إلا أن الذين ينتفعون به هم المتقون دون سواهم. ولولا الكتب المنزلة لما عرف الناس كيف يتقون ربهم، قال تعالى بعد أن بيَّن الأحكام التي تتعلق بالصيام: " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " [البقرة: 187] فكيف يتقي الناس ما شرع لهم في الصيام، لولا هذا البيان الذي بيّنه الله، وقال تعالى: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقُونَ " [التوبة: 115] فالضلال لا يكون حتى يبين الله للعباد ما يتقونه، فإن، قبلوه، وأخذوا به كانوا من المتقين وإلا كانوا من الضالين، ولذلك لا تقوم الحجة على العباد إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب لقوله تعالى: " رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ " [النساء: 165] وقال تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا " [الإسراء: 15].
وكتاب الله أعظم ما يدلُّ الناس على ربِّهم تبارك وتعالى، فإذا نظر العبد في كتاب الله عز وجل تجلى الله له بعظمته وجلاله وأسمائه وصفاته، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: " القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر، كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحبِّ كلِّها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء، كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
فتبقى المحبة طبعاً لا تكلفاً، وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وقوي طمعه، وسار إلى ربه، وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلَّما قوي الرجاء جدَّ في العمل، كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغلّ غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصَّر في البذر.
وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت، أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة(جمع (عنان)، وهو الذي تمسك به الدابة) رعوناتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر.
وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع، انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره والتبليغ لها والتواصي بها وذكرها وتذكرها والتصديق بالخبر والامتثال للطلب والاجتناب للنهي.
وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم، انبعثت من العبد قوة الحياء فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.
وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونرهن لأوليائه، وحمايته لهم، ومعيته الخاصة، انبعثت من العبد قوة التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به وبكل ما يجريه على عبده، ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله، وحسن اختياره لعبده، وثقته به، ورضاه بما يفعله به ويختاره له.
وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء، أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخضوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدَّته.
وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه، ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه والافتقار إليه، الاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له.
وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاءه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيُّوميَّته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه، ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه.
وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين، أشهدك ملكاً قيُّوماً فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعزُّ ويذلُّ، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكلِّ كمال، منزَّه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع " [الفوائد، لابن القيم].
ثانيا: عبادة الله تبارك وتعالى بصدق:
عباده الله – تبارك وتعالى - وحده لا شريك له تغرس التقوى في قلب العبد، سواءً أكانت عباده مفروضة كالصلاة والصوم والزكاة والحج والدعاء والنذر ونحوها، أو مستحبة كالنوافل من العبادات، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [البقرة:21].
لقد نادى ربُّ العزةِّ الناس جميعاً آمراً إياهم بعبادته وحده لا شريك له، وهذا الإله الذي أمروا بعبادته هو المستحق للعبادة، لأنه هو الذي خلقنا وخلق آباءنا من قبلنا، ثم بيَّن سبحانه أن غاية العبادة التقوى " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [البقرة: 21] فالعبادة تنشئ التقوى في القلوب.
وإذا أنت نظرت إلى الصلاة وما فيها من أعمال وأقوال، وجدتها تنشأ التقوى في القلوب، فأنت تتطهر أولاً، ثم تقف مستقبلاً القبلة، وبعد أن تكبر تدعو بواحد من أدعية الاستفتاح، الذي تمجد فيه ربك، وتثني عليه، ثم تقرأ الفاتحة، وهي أعظم سورة في كتاب الله، وهي ثناء وتمجيد وتعظيم لله، ثم تقرأ بما تيسر من القرآن، وفي الآيات التي تقرؤها ما فيها من معاني كريمة، تعرفك بالله وصفاته وأسمائه وحقوقه، ثم تكبر راكعاً، ثم تسبح ربك وتثني عليه.
ثم ترفع رأسك قائلاً: سمع الله لمن حمده، حامداً ربك: «ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، ولكنها لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ».
ثم تخر مكبراً ساجداً مسبحاً لله تعالى، داعياً إياه بما علَّمك رسوله صلى الله عليه وسلم من أدعية، ثم ترفع مكبراً، فتجلس داعياً الله بين السجدتين، وفي التشهد تذكر التحيات التي تتقدم بها إلى رب العزة، وهي تحيات طيبات وتسلم على النبي، وتصلي عليه، ثم تدعو بما شئت، وتختم بالسلام عن اليمين والشمال، إن هذه الصلاة إن صليتها بتدبر وخشوع أنشأت التقوى في القلب، وغرستها فيه.
ومن العبادات التي تنشئ التقوى في القلوب الصيام، قال تعالى: " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [البقرة: 63] فالذي يمتنع عن الطعام والشراب والنكاح طيلة نهار رمضان في شهر رمضان لا يمنعه إلا أن الله شرع ذلك وفرضه، تنشأ التقوى في قلبه وتقوى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " أمر الله بالصيام لأجل التقوى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن، يدع طعامه وشرابه» فإذا لم تحصّل التقوى لم يحصل له مقصود الصوم، فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك " [مختصر الفتاوى المصرية].
ومع أن العبادة تنشئ التقوى، فإن التقوى بدورها تدعو لعبادة الله، وقد صحَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرٍّ ناصحاً ومعلِّماً: «اتَّق الله تكن أعبد الناس» [حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي، وأخرجه في الصحيحة].
ثالثا: التفكر في خلق الله تعالى:
التفكر في خلق الله تعالى يغرس التقوى في القلوب، فالله تبارك وتعالى ملأ هذا الكون الذي نعيش فيه بالآيات الدالة عليه سبحانه، فقد جعل الله سبحانه الشمس ضياءً، والقمر نوراً، وقدَّره منازل، لنعلم عدد السنين والحساب، وخلق الله الليل والنهار، وجعلهما يتقارضان، فيطول هذا، وينقص هذا، ثم يقع العكس، وخلق في السماوات والأرض آيات كثيرة عظيمة، قال تعالى: " هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ " [يونس: 5- 6] والنصوص الآمرة بالتفكر في آيات الله في الكون كثيرة جداً، والتفكر فيها يدلنا على أن الله لم يخلق الكون عبثاً، فقد خلقه ليكون معبداً لبني آدم يعبدون الله فيه، وهو ليس النهاية، بل وراء هذه الحياة حياة أخرى، يبعث الله فيها العباد ويجازيهم بـأعمالهم، قال تعالى: " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ " [آل عمران: 190- 194].
مختارات