" الصـراط "
" الصـراط "
وبعد وزن الأعمال ينصب الصراط وهو الجسر الذي يُمد على متن جهنم، أحد من السيف وأدق من الشعر، طوله شهر تغشاه الظلمة، عليه حسك وكلاليب تخطف الناس.
فيقف أتباع الرسل الموحدون وفيهم أهل الذنوب والمعاصي وفيهم أهل النفاق، وتلقى عليهم الظلمة قبل الجسر، ثم توزع عليهم الأنوار كل حسب ما معه من إيمان وعمل صالح.
وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إلى المؤمنين والاقتباس من نورهم عندما تطفأ أنوار المنافقين، وهذا موقف ثاني يتميز فيه أهل الإيمان عن المنافقين بعد الذي أشرنا إليه من عدم تمكنهم من السجود.
وقد حدثنا الحق تبارك وتعالى عن مشهد مرور المؤمنين على الصراط، فقال: " يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " [الحديد: 12-15].
قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم في قول الله تعالى على لسان المؤمنين: " رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا " قالوا: هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طفئ.
ويعطي المؤمنون أنوارهم على قدر أعمالهم، ويسيرون على الصراط على قدر تلك الأنوار كما جاء في الحديث الصحيح الذي فيه: «فمنهم من يعطي نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطي نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطي نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطي دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره في إيهام قدمه، يضئ مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا أطفا قام، قال: فيمروا ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، ويقال لهم: أمضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إيهام قدمه، تخر يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا، قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك، لقد أعطانا ما لم يعط أحد».
يقول القرطبي واعظًا بمشهد المرور على الصراط:
«فتوهم نفسك إذا صرت على الصراط ونظرت إلى جهنم تحتك سوداء مظلمة قد لظى سعيرها وعلا لهيبها وأنت تمشي أحيانًا وتزحف أخرى، والخلائق بين يديك يزلون، ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب وأنت تنظر إليهم، كيف ينكسون إلى جهة النار رءوسهم وتعلو أرجلهم، فيا له من منظر ما أفظعه ومرتقى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه».
مختارات