" آثار الحرام على العبادات "
" آثار الحرام على العبادات "
مما لا شك فيه أن الله تعالى لا يقبل من العمال والأقوال إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، موافقًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
كما قال تعالى: " فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا " [الكهف: 110] وكما قال أيضا: " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ " [فاطر: 10].
والعمل الصالح المقبول على هذا النحو، لا بد له أولاً من طيب المأكل والمشرب والملبس شرطاً أساساً لقبول العبادة بشتى أنواعها ويراد بقبول العمل والعبادة أو عدم قبولها، ثلاثة معان أو مراتب:
الأول: الرضا بالعمل، ومدح فاعله، والثناء عليه بين الملائكة الكرام، والمباهاة به.
الثاني: حصول الأجر والثواب عليه.
الثالث: سقوط الفرض عنه.
والمقصود أن العمل يكون مقبولًا بالمعنيين الأولين.
أما المعنى الثالث وهو سقوط الفرض عنه.. فإنه حاصل ولكن بدون رضا عنه، ولا أجر عليه ( ابن رجب الحنبلي).
وقد كان السلف الصالح يخشون على أنفسهم ألا يقبل الله منهم عملهم، ويتحرون هذه الآية ويضعونها نصب أعينهم هذه الآية: " إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ " [المائدة: 27].
ويشهد لهذا المعنى ما قاله أبو عبد الله الباجي الزاهد، رحمه الله، حيث قال:
خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل.
وذلك إذا عرفت الله عز وجل، ولم تعرف الحق لم تنتفع.
وإن عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع.
وإن عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع.
وإن عرفت الله وعرفت الحق، وأخلصت العمل، ولم يكن على السنة لم تنتفع.
وإن تمت الأربع، ولم يكن الأكل من حلال، لم تنتفع ( ابن رجب الحنبلي).
وقال وهب بن الورد: «لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك أحلال أم حرام» (ابن رجب الحنبلي).
هذا: وإن آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ناطقة بربط قبول سائر العبادات من دعاء وصلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك من صالح الأعمال بتحري الحلال من الكسب والتعاطي؛ وسنذكر بعضا منها:
أولًا: الدعاء:
ففي الدعاء، وهو مخ العبادة، يقول تعالى: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " [البقرة:186].
وعباد الله الذين استجابوا له، هم من يفعلون الحلال ويتركون الحرام، فيكونون أهلاً للإجابة قال تعالى: " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " [غافر: 60].
وإجابة الدعاء منوطة بأكل الحلال وترك الحرام وتوقي الشبهات:
أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين: فقال: " يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " [المؤمنون: 51] وقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟».
فقد جمع الحديث بين القرآن والسنة في الأمر بالأكل من الطيبات، ورتب عدم قبول الدعاء على أكل الحرام، وذلك لأن استمداد مصدر القوة في الحركات والأنفاس قائم على الغذاء الحرام. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فأنى يستجاب لذلك؟» استفهام على سبيل التعجب والاستبعاد.
وأخرج البخاري والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بخصوص المال: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه: أمن الحلال أم من الحرام؟» وزاد رزين: «فإذ ذاك لا تستجاب لهم دعوة» (ابن الأثير، جامع الأصول).
ففيه بيان أن الحرام يكون سبباً في عدم إجابة الدعاء.
ولذا: فقد قيل لسعد بن أبي وقاص رضى الله عنه: «تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها ومن أين خرجت» (ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم).
وكما أن أكل الحرام يكون سبباً لعدم إجابة الدعاء، فإن ترك القيام بالواجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون سبباً مانعاً من إجابة الدعاء أيضاً.
عن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعونه فلا يستجيب لكم» (أخرجه أحمد والترمذي، انظر ابن الأثير جامع الأصول، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير واللفظ منه).
وارتكاب المحرمات والمعاصي يكون أيضًا سببًا مانعا من إجابة الدعاء.
يقول بعض السلف: «لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طرقها بالمعاصي» (ابن رجب الحنبلي).
وقال مالك بن دينار: «أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجًا، فأوحى الله إلى نبيه أن أخبرهم: إنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليَّ أكفاً قد سفك بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن اشتد غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بعداً» (ابن رجب الحنبلي).
كما أن فعل الطاعات والأعمال الصالحة تكون سبباً في قبول الدعاء وإجابته وكشف الغم، وتفريج الكرب، والخروج من المحن، كما في الحديث المتفق عليه.
عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خرج ثلاث يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه، فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان، شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحِلاَب- بكسر الحاء وفتح اللام - فآتي به أبوي، فيشربان، ثم أسقي الصِّبية، وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون ( يصيحون بالبكاء) عند رجلي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر.
اللهم إن كنتَ تعلم إني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرُج عنا فُرجة، نرى منه السماء. قال: ففُرِج عنهم.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي، كأشد ما يحب الرجل النساء فقالت: لا تنال ذلك منها، حتى تعطيها مائة دينار (مقتضى السياق أن يقال: لا تنال ذلك مني حتى تعطيني لكنه من الالتفات) فسعيت فيها حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق الله، ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها.
فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيراً بفرَق (الفرق بفتح الراء: مكيال يسع ثلاثة آصع، والصاع كيلوان ونصف تقريبا) من ذرة فأعطيته، وأبى ذاك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقراً وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك.
اللهم إن كنت تعلم، إني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم» (متفق عليه).
فقد حفظ الثالث حق الأجير ونماه له ووفاه له كاملاً بعد استثماره وتعهده لمدة طويلة، حفظًا للأمانة وخوفًا من أكل حق الغير بالباطل، فكان الجزاء من الله تعالى بأن شفع هذا العمل لصاحبه وفرج الله عنه كربته، وهكذا كل من يعطي لأحد حقه ولا يأكل المال بالباطل.
وفي الحديث بيان أن تفريج الكرب، وحل العقد، والخروج من المحن، إنما يكون بتقوى الله تعالى، والتقرب إليه بصالح الأعمال، لا بالأموال والعقارات وغيرها؛ وهذا مصداق قوله تعالى: " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا " [الطلاق: 2-3].
وقوله: " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا " [الطلاق: 4].
وكما ثبت أن دعوة الولد الصالح لأبيه عمل صالح يجري له بعد مماته.
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (الحافظ المنذري، مختصر صحيح مسلم).
فدل هذا كله: على قبول الدعاء وإجابته بسبب أكل الحلال وتحريه في كل شيء، والقيام بالواجبات، وفعل الطاعات وكثرة العمل الصالح.
كما أن التوسع في الحرام، أكلاً وشربًا وملبسًا، وفعل المعاصي، وعدم القيام بالواجب أسباب مانعة من إجابة الدعاء وقبوله.
ثانيًا: الصدقة:
والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً. والحرام سواء أكان مالاً أم متاعاً أم غير ذلك، غير طيب، لأنه خبيث، ومن مصدر خبيث غير مشروع، فهو بالتالي غير مقبول.
ينص على ذلك الكتاب والسنة:
قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ " [البقرة: 267].
ففي الآية أمر بالنفقة من الكسب الطيب، سواء أكانت النفقة تطوعا أم صدقة واجبة، وفيها نهي عن النفقة من الخبيث في هذه الوجوه وغيرها، والخبث أعم من الرداءة، فهو يأتي بمعنى الحرام أيضًا.
كما قال تعالى: " لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " [الأنفال: 37].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل» (محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان).
ففي الحديث أنه لا يصعد إلى الله تعالى إلا ما كان من كسب طيب وأن الصدقة من حلال تربو عند الله عز وجل كما قال تعالى: " يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ " [البقرة:276].
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول» (الحافظ المنذري، مختصر صحيح مسلم).
ففيه نفي قبول الصدقة إن كانت من الغلول، وهو مال حرام.
وقال سفيان الثوري: «من أنفق من الحرام في طاعة الله، كان كمن طهر الثوب النجس بالبول، والثوب النجس لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال» (الغزالي، إحياء علوم الدين).
والمتصدق من مال غيره ارتكب إثمًا بصدقته هذه، وأجرها لصاحب المال:
أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جمع مالًا حرامًا ثم تصدق به، لم يكن له فيه أجر. وكان إصره عليه»(الهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم).
ثالثًا: سائر العبادات:
وكذلك الشأن في سائر العبادات، فكيف يقبل الله تعالى الصلاة ممن تغذى بالحرام وكانت أنفاسه التي يناجي بها ربه، تمتد طاقتها من الحرام، وكل جسم غذي بالحرام فالنار أولى به.
أو كيف يقبل الله منه صلاته وقد لبس ثوبًا من حرام، أو فيه شيء منه.
أو توضأ بماء مغصوب مثلًا.
أو وقف يصلي في بيته على فراش جاء من طريق حرام.
أو كان البيت نفسه أو إيجاره الذي يدفع قد آل إليه من طريق حرام... إلخ، أو كان يسكن في بيت مغصوب رغمًا عن صاحبه بقوة القانون !!
وكذلك الحج: لا بد أن يكون من نفقة طيبة وكسب حلال، خاليًا من الفسوق، وهو شامل للمال الحرام، وذلك لكي يكون الحج مبرورًا مقبولًا.
فإذا كان الزاد أو الراحلة من طريق حرام، أو بعض ذلك من حرام، فحجه غير مبرور، وهو بالتالي غير مقبول، ويتعرض صاحبه لرد تلبيته عليه.
وكذلك الحال في كل ما يتقرب به العبد إلى ربه كأضحية أو وفاء بنذر، أو كفارة أو صداق امرأة، أو المساهمة في وجه من وجوه الخير، أو كتب علم، أو آلة مهنة، أو وسيلة سفر، أو عمل أو إكرام ضيف..إلخ أو غير ذلك مما لا يحصى.
ومن هذا يتبين مدى تأثير الحرام، كسبًا وتعاطيًا على عدم قبول العبادة والعمل، وعلى الفرد والمجتمع ومن يعول.
مختارات