" فدائية الأسرة "
" فدائية الأسرة "
ضحكاتها الطفولية تملأ الأرجاء وبراءتها العذبة تبهج الحياة.. لا تحمل في نفسها همًا.. ولا يكدر صفوها شيء.. أكبر آمالها وطموحاتها أن تحصل على لعبة جميلة أو فستان جديد أو حلوى لذيذة مثلها مثل غيرها من الفتيات وهكذا الأحلام الطفولية محدودة وبريئة ببراءة سنهم الطفولي ولكن عائشة لم تجد من ذلك شيئًا، كل ذلك بات عندها مجرد أماني وأحلام.. لا تراه إلا مع أبناء الجيران أو أقاربها.. فعمل والدها ودخله المحدود جدًا والذي لا يكاد يسد رمقهم فضلاً عن الأمور الأخرى لا يشجع على ذلك.. وهم من فئة يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
كبرت عائشة وكبرت معها أحلامها وزادت طلباتها خاصة في هذا الزمن العصيب الذي انتشرت فيه المظاهر البراقة واشتعل فيه اللهاث المسعور على هذه الدنيا والذي لا يطفئه إلا القناعة والرضى بما قسمه الله وما كل ما يتمنى المرء يدركه.. كانت عائشة ترى قريناتها في المدرسة يلبسن الجديد.. ويتفنن في أحذيتهن وحقائبهن.. بل حتى في دفاترهن وأقلامهن.. بينما هي تمكث عدة سنوات بنفس المريول حتى تمزق، أما حذاؤها فحدث ولا حرج فقد تآكل لكثرة ما مشت به.. بل وأصبح ضيقًا على قدميها.. فتبكي بصمت وحرقة.. تتساءل.. لماذا حالي هكذا؟!! إنها تريد أن تكون مثلها مثل زميلاتها.. كم صارحت أمها بذلك.. فتتألم الأم وتعتذر لابنتها بضيق ذات اليد.. بل وتضطر أحيانًا للاستدانة لتحضر لبناتها ما يتمنين ولكن إلى متى الديون؟!! حتى ماكينة الخياطة لا تفي بالغرض المطلوب.. أيام شدة وبؤس وشقاء لعلها تنقضي.. هذا ما كانت تردده الأم دائمًا..
اجتازت الفتاة مرحلتها الثانوية ومن ثم مرحلتها الجامعية وذلك بكل صعوبة ومشقة.. ومن ثم زفت إليها الوظيفة.. فانفتح أمام الأسرة باب الأمل والسعادة، واستبشروا خيرًا.
رددت الفتاة لعلي أعوض تلك البطون التي ذاقت مرارة الحرمان.. وتلك الأبدان والتي قل ما سعدت بلبس جديد.. لعلي.. ولعلي.. ولعلي.. أماني كثيرة.. وأحلام عريضة.. رفعت بصرها إلى السماء داعية: يا رب أعني.. يا رب وفقني.. يا رب يسر لي أمري.. سرح بها خيالها لتعود إلى الماضي القريب وتتذكر تلك الليالي والأيام البائسة والتي عاشتها في ظل الفقر.. وكنف الشدة والضيق.. كم رأت دمعات أمها تسيل على خديها وهي الصابرة المحتسبة.. كم انحنى ظهرها وهي تحوك الملابس للأخريات لعلها تساهم بشيء بسيط يسعد أبناءها وأبوها ذلك الرجل الكهل الذي بذل كل ما في وسعه، فواصل الليل بالنهار لعله يحقق لأبنائه شيئًا مما يتمنونه على الرغم من تحذيرات الطبيب له.. وخطر ذلك على صحته ولكن ما باليد حيلة.. ذكريات مؤلمة حزينة.. لا أعادها الله.
- نعم سأبذل قصارى جهدي حتى لا يعاني إخوتي ما عانيت.. سأقف معهم سأساندهم لقد تذوقت حياة العوز والحاجة.. ولا أريد أن يتذوق إخوتي ما تجرعت.. سأعمل ثم أعمل ثم أعمل وسأمد والدي بكل ما أستطيع.
هذا ما رددته عائشة بينها وبين نفسها.. وبالفعل شمرت عن ساعد الجد.. فأخذت تعمل بكل إخلاص وتفاني.. وفي نهاية كل شهر تعطي والدها كل ما تكسبه ولا تبقي لنفسها إلا النزر اليسير محتسبة ذلك عند الله.. والوالد بدوره ينفق منه على أسرته فظروفه الصحية وكبر سنه أوهن جسده فلم يستطع إكمال مسيرة العمل.. وقليلاً قليلاً تتحسن ظروف الأسرة المعيشية.
وتكبر عائشة.. وتحتل المنزلة والتقدير والمودة بين أبويها وإخوانها.. بل وكل من يعرفها فهي فتاة طيبة القلب.. لبقة مستقيمة تخاف الله متمسكة بدينها ذات سيرة حسنة ورجاحة عقل.. بل وعرفت في العائلة بالأم الحنون والأخت العطوف.. وإذا بالأم ترمق ابنتها فتتساءل: صغيرة الأمس أصبحت عروسة اليوم متى أفرح بها؟
فتجيب نفسها: ولكنَّه النصيب لم يأت بعد.
تشغل الوظيفة كل حياة عائشة بل وتسلب لبَّها.. فهي في المدرسة ليست فقط معلمة، بل ومربية ناصحة مشفقة تحس بعظم المسؤولية التي تحملتها وأن البراعم التي بين يديها من بنات المسلمين ما هي إلا أمانة ستسأل عنها يوم العرض الأكبر.. فهي مخلصة في عملها.. متفانية في بذل كل ما تستطيع في طاعة ربها.
تمر الأيام ويزداد المرض على أبيها.. ويشتد تعبه فتحرص الفتاة على ملازمة أبيها فترة مرضه حتى أنها تغيبت عن المدرسة لتمكث بجانبه.. ويصر الأب تلح الأم في أن تذهب عائشة إلى مدرستها فتذعن الفتاة لتذهب مرغمة وفؤادها معلق عند أبيها.. تسعى جاهدة لنيل رضاه فرضى الله من رضى الوالدين.. وتعود ذات يوم وتتفاجأ بازدحام الرجال واكتظاظ النساء في بيتهم فتهرول مسرعة إلى أمها.. لتراها باكية.. تسألها بلهفة وذعر: ماذا حصل؟!! كيف أبي؟ أين هو؟!! ولكن الأم لا تجيبها إلا بالدموع.. فتحتضن ابنتها والتي علمت فيما بعد أن أباها قد توفاه الله.. مات وهو يقول: اللهم ارض عن عائشة فإني راض عنها.
أيام عصيبة وثقيلة مرت على هذه الأسرة.. وبالذات على عائشة.. فهي تشعر أن المسؤولية على عاتقها تزداد.. وأنها الآن عائل البيت وإخوانها ما زالوا صغارًا.. تمر الأيام ويمضي الوقت.. ويتقدم لعائشة الخطاب الواحد تلو الآخر.. ولكنها تؤجل هذا الموضوع أو حتى التفكير فيه.. وهذا هو خطؤها الذي وقعت فيه.
فهي تقول: إن أمامها مهمة لا بد أن تؤديها.. ورسالة لا بد أن تنهيها إنها تنتظر أن يكبر إخوانها فيعتمدوا على أنفسهم.. ويتحملوا عنها عبء المسؤولية.. ولا تدري أن هذا الأمر سيكون على حساب حياتها.
ويمر العمر بذات الخلق والدين والمال والجمال.. ويكبر الصغار.. ويحتلون مراكز مرموقة.. ويتفرق الأبناء.. وتتزوج أصغر البنات.. أما عائشة فقد طال بها العمر وأصبحت تنتظر من يؤنس وحشتها.. وتتلهف لكل طارق تظنه ابن الحلال ولكن أملها يخيب.. وأحلامها تتلاشى.. لقد تملكها الحزن وضاقت نفسها.. فنداء الفطرة يدوي في أعماقها ويجلجل في حنايا فؤادها.. إنها تحلم بذلك الطفل الذي تضمه إلى صدرها تناغيه.. تهبه كل ما تملك.. ولكن هل يتحقق الحلم.. يساورها القلق والخوف.. فهي ترى الشيب يغزو مفرقها والتجاعيد تزحف إلى وجهها الصبوح.. والهموم تعصف بها من كل جانب.. والحسرة تكاد تقتلها على شباب ضاع لكنها تحتسبه عند الله.. الأم العجوز.. يشتد تعبها.. ويتقطع فؤادها حزنًا على ابنتها التي تراها أمامها وتشعر بمعاناتها.. وأرقها.. وعلامات الكآبة التي تبدو على محياها لكن ماذا تفعل لها؟!! لو كان العريس يباع لاشترته لها؟!!
ها هي عائشة تلازم الفراش لمرض ألم بها.. وقد يكون قهر الأيام.. وضغط الزمان.. وقليلاً تفارق فدائية الأسرة الحياة.. وتلفظ أنفاسها الأخيرة.. تلفظ أنفساها وقد شخص بصرها إلى السماء.. وارتسمت على محياها ابتسامة عذبة جميلة.. وقد رفعت سبّابتها مرددة الشهادتين بكل يقين وسكينة ووقار.. فما أجمل هذه الميتة.. وما أنقاها.. الجميع قد التف حولها ليودّعوا من بذلت مالها وصحتها وشبابها لأجلهم.. ليودعوا الأم الحنون.. ودَّعوها والقلوب تقطر حزنًا وأسى.. لك الله يا عائشة، فقد كنت مطيعة لربك بارة بوالديك محبة للخير لإخوانك.. لك الله وعوضك الله على صبرك وتحملك وعنائك بنعيم الجنة وأبشري بعريس الآخرة.. اهـ.
مختارات