"مقدمة "
" مقدمة "
النفس بطبيعتها كثيرة التقلب والتلون، تؤثر فيها المؤثرات، وتعصف بها الأهواء والأدواء، فتجنح لها وتنقاد إليها، وهي في الأصل تسير بالعبد إلى الشر كما قال تعالى: " إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي " [يوسف:53]، ولذا، فإن لها خطراً عظيما على المرء إذا لم يستوقفها عند حدها ويلجمها بلجام التقوى والخوف من الله، ويؤطرها على الحق أطراً.
قال لقمان الحكيم لابنه: (يا بني، إن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حرون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت. إن النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت، فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها ولابد له منها. وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق: فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره) (ذم الهوى لابن الجوزي).
إن هذه الحياة مليئة بألوان وأنواع الفتن والشهوات، فكم أردت لها من قتيل، وكم أذهبت من صواب حازم لبيب، وكم ممن كان يشار إليه بالبنان هوى – بسببها – في مستنقع الخطيئة السحيق.
إنها مرحلة ابتلاء وامتحان، وصبر ومصابرة " لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ " [الأنفال: 37]، كما أنها أيضا مرحلة إعداد وتنقية لنفس المؤمن لتؤهله لدخول دار النعيم، تلك الدار التي لا يدخلها إلا أرباب النفوس التقية النقية، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة» (رواه الترمذي من حديث ابن عباس، كتاب تفسير القرآن وصححه الألباني في صحيح الترمذي).
إن داراً زينها الله بيديه، وجملها وحبرها فكان فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إن تلك الدار لا يمكن أن تكون كلأً مباحاً لكل نطيحة ومتردية من بني آدم، كلا، إنما هي لأولئك الذين سمت نفوسهم إلى ربهم، فأحسنوا العمل في الدنيا، وأدأبوا أنفسهم في خدمة سيدهم – جل شأنه – ومع ذلك فهم في خوف دائم لا ينقطع، قلوبهم كقلوب الطير لا يأمنون مكر الله، بل هم بين خوف ورجاء، إن سمعوا وعيدا ارتعدت فرائصهم، واضطربت جوارحهم فرقاً وخوفاً من عذاب ربهم " إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ " [المعارج:28] وإن سمعوا وعدا كادت أرواحهم أن تخرج من أجسادهم شوقاً إلى موعود الله ودار كرامته.
تلك هي نفوس أهل الإيمان: العارفين بالله، أولئك هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فكيف لنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه؟
إنه سؤال في غاية الأهمية، وللجواب عليه يقال: إن ذلك لا يكون إلا بتزكية النفس التي بين جوانحنا تزكية صادقة، ومحاسبتها محاسبة جادة لكي نرتقي بها إلى مراتب الكمال البشري الذي أُمرنا بنشدانه وشحذ الهمم للوصول إليه.
ومن هنا كان لزاما على كل عبد يرجو لقاء ربه أن يطيل محاسبته لنفسه، وأن يجلس معها جلسات طوالاً، فينظر في كل صفحة من عمره مضت: ماذا أودع فيها، ويعزم على استدراك ما فات، ويعد العدة لسفره الطويل إلى الله – تبارك وتعالى – فالقدوم عليه لا مناص منه ولا محيض. ومن عقل وتبصر علم أن بعد هذه الحياة بعثا وحساباً، ومرتقى صعباً، المهبط منه إما إلى الجنة وإما إلى النار.
مختارات