" البكاء من خشية الله تعالى "
" البكاء من خشية الله تعالى "
1- الأسباب الداعية للحديث في هذا الموضوع:
أ- اهتمام السلف به اهتمامًا عظيمًا في مصنفاتهم:
فلقد خصص السلف لهذا الموضوع في مصنفاتهم كُتبًا وأبوابًا، ففي كتاب «الزهد» للإمام أحمد باب في فضل البكاء من خشية الله.
وفي كتاب «الترغيب والترهيب» للإمام المنذري – فصل في الترغيب في البكاء من خشية الله (4/124-128).
وفي «سنن الترمذي» كتاب الزهد، باب فيما جاء في فضل البكاء من خشية الله (4/555).
وفي كتاب «التبيان في آداب حملة القرآن» للإمام النووي، فصل في البكاء من خشية الله عند تلاوة كلام الله جل وعلا، وغيرها كثير.
ولقد كان السلف يتصفون به في حال سرهم وجهرهم، فعن عبد الرازق عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: دخل سعد وابن مسعود على سلمان عند الموت، فبكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: عَهْدٌ عَهدَه إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نحفظه، قال: «ليكن بلاغُ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب» وأما أنت يا سعد فاتق الله في حُكمك إذا حكمت، وفي قسمك إذا أقسمت، وعند همك إذا هممت.
قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وثلاثين درهمًا نفيقة كانت عنده (حديث صحيح أخرجه ابن ماجة وأبو نعيم في الحلية ).
فسبحان الله ! سلمان – رضي الله عنه – ما ترك إلا بضعة وثلاثين درهمًا وهو الذي لُقب بابن الإسلام، ومع ذلك يبكي. فماذا يفعل من ترك الآلاف والملايين من الأموال والأمتعة؟ ولم يكن يبالي من أين جمعها وماذا سيقول حينما يُسأل «من أين اكتسبته وفيم أنفقته»؟ فاللهم ارحمنا يوم العرض عليك يا رب ولا تفضحنا بين خلقك.
ووجود هذا الأمر – البكاء من خشية الله تعالى – فيمن يُتلقى عنه العلم يؤثر في طالب العلم أكثر من العلم النظري بكثير، ولذا يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى (صيد الخاطر، لابن الجوزي): " لقيت مشايخ، أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم في صحبته العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه.
ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه.
فكان وأنا صغير السن حينئذ – يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.
ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول متقنًا محققًا.
وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن.
وكان كثير الصوم والصمت فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما.
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول ".
ب- حالنا يفطَّر الأكباد في معاملاتنا:
سواء كانت معاملاتنا مع الرب أو معاملاتنا مع العبد، أما مع الرب ففرطنا فيها أشد تفريط. فأين الشوق إلى رؤيته سبحانه ولقائه؟ فمن أحب الله بكى خوفًا من فوات قربه.
ومن خاف من الله بكى من ذنوبه.
ومن رجا الله بكى رجاء رحمته.
وهذه هي مقامات الإيمان الثلاثة: الحب، والخوف، والرجاء.
فلما ذهبت هذه المقامات تركنا البكاء من خشية الله – تعالى – لأنه كما قال أبو سليمان الداراني – رحمه الله تعالى -: لكل شيء علم، وعلامة الخذلان ترك البكاء، ولكل شيء صدأ، وصدأ القلب الشَّبع (سير أعلام النبلاء).
فأين البكاء وأين البكاؤون؟!
أما في الآخرة فلقد جعل الله – تعالى – البكاء من خشيته – سبحانه – سببًا من أسباب وقاية حرَّ الشمس يوم القيامة، وما أشد هذا الحر !
فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « تُدْني الشمسُ، يومَ القيامةِ، مِنَ الخلقِ، حتى تكونَ منهمْ كمقدارِ ميلٍ، قال سليمُ بنُ عامرٍ: فواللهِ ! ما أدري ما يعني بالميلِ؟ أمسافةُ الأرضِ، أمْ الميلُ الذي تَكتحلُ بهِ العينُ، قال: فيكونُ الناسُ على قدرِ أعمالِهمْ في العرقِ، فمنهمْ مَنْ يكونُ إلى كعبيهِ، ومنهمْ مَنْ يكونُ إلى ركبتيهِ، ومنهمْ مَنْ يكونُ إلى حقويهِ، ومنهمْ مَنْ يُلجمُهُ العرقُ إلجامًا، قال وأشارَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بيدِهِ إلى فيهِ (رواه مسلم).
وسُليم بن عامر هو الراوي عن المقداد بن الأسود – رضي الله عنه.
أما كون البكاء سببًا للوقاية من هذا الحر الشديد فلما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه، ورجل قلبه مُعلق في المسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها قال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه»(رواه البخار ي ومسلم والترمذي والنسائي واللفظ للبخاري ولفظ النسائي قريب جدًا من هذا اللفظ).
فهكذا أخي الحبيب: «ورجل ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه» فهل وقع منا ذلك؟
أما حالنا مع العباد فلا يقل شناعة عن ذلك. أين النصح والتناصح في الله تعالى؟ أين مجالس العلم؟ أين مجالس البكاء من خشية الله تعالى؟ قد تقول – أخي الحبيب – مجالس البكاء ! نعم أيها الحبيب مجالس البكاء – فلقد كان محمد بن سوقة – رحمه الله تعالى – يبحث كل يوم جمعة عن ضرار بن أمية، فإذا التقى أحدهما بالآخر جلسا يبكيان.
أيها اللبيب – أتدري من هو «محمد بن سوقة» قال عنه الذهبي – رحمه الله - (سير أعلام النبلاء): الإمام العابد الحجة، ومن تلامذته السفيانان الثوري وابن عيينة وغيرهما، قال عنه سفيان بن عيينة: كان «محمد بن سوقة» لا يُحسن أن يعصي الله تعالى، وقال النسائي: ثقة مرضي، وروى له أصحاب الكتب الستة.
أخي الحبيب – إن كنت سلفيًا فهذه مجالس السلف «الرجل لا يحسن أن يعصي الله» وله ورده في البكاء !!! فسبحان الملك الوهاب.
ج) أخي الحبيب – أنصح نفسي وإياك بهذه الفضيلة «البكاء» وذلك «الخوف» الذي هو من مقامات الإيمان الثلاثة، فلقد عاتب الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أربع سنين من إسلامهم على ذلك.
فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: «ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ " [الحديد: 16] إلا أربع سنين» (رواه مسلم).
أخي المبارك الحبيب... لقد ذكر الله البكاء في كثير من سور القرآن ولا سيما السور المكية في بداية الدعوة حتى يتربى الصحابة الكرام على ذلك، ففي سورة مريم، وهي مكية بالاتفاق بعد ما ذكر الله تعالى عددًا من أنبيائه وعباده المقربين قال سبحانه: " أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا " [مريم: 58].
وفي سورة الإسراء قال الله تعالى: " وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " [الإسراء: 106-109] وسورة الإسراء مكية بالاتفاق أيضًا.
بل إن الله – عز وجل – أنكر على من سمع القرآن، ولم يبك. قال الله تعالى: " أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ " [النجم: 59-61] وسورة النجم أيضًا مكية.
فهكذا أخي الحبيب لا بد من التربية على هذا المنهج المبارك من البداية وحتى النهاية. فاللهم خذ بنواصينا إلى سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
مختارات