" شروط التوبة "
" شروط التوبة "
التوبة إلى الله – تعالى – من أعظم الحسنات؛ لأنها تزيل العوائق التي تقوم بين العبد وبين ربه: تلك العوائق الكامنة في النفس من شهواتها ونزواتها؛ فالتوبة تملأ النفس بالأمل، وتقود القلب إلى مصدر النور.
ولن تكون التوبة صحيحة مقبولة حتى تتحقق فيها شروط تثبت صدق التائب في توبته.
من هذه الشروط:
أولاً: أن تكون خالصة لله – عز وجل – لأن الله – سبحانه – لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا له وحده مبتغىً به وجهه، وموافقًا أمره باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فلا بد أن يكون العمل خالصًا إلى الله – تعالى – صوابًا؛ أي موافقًا للسُّنَّة؛ إذ قد يكون العمل صوابًا ولا يكون خالصًا، فلا يقبل، وقد يكون خالصًا ولا يكون صوابًا فلا يقبل – أيضًا – وكان من دعاء عمر – رضي الله عنه -: «اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا».
فيكون الباعث للتوبة حُبُّ الله وتعظيمه ورجاؤه، والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، لا تزلفًا إلى مخلوق، ولا قصدًا في عرض من عرض الدنيا الزائل.
ثانيًا: الإقلاع عن المعصية: لأن النفس المشغولة بلذة المعصية قلَّما تُخْلص عمل الخير؛ فيجاهد التائب نفسه لاقتلاع جذور الشر من قلبه، حتى يصبح نقيًا خالصًا صافيًا، تصدر عنه أعمال الخير بنية صالحة مقبولة عند الله؛ فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال، وإن كانت بترك واجب فعله في الحال إن كان مما يمكن قضاؤه، وإن كانت مما يتعلق بحقوق الخلق تخلص منها وأداها إلى أهلها أو استحلهم منها، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
ثالثًا: الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال والعزم على ألا يعاود الذنب في المستقبل، فلن تكون التوبة صحيحة حتى يكون نادمًا آسفًا حزينًا على ما بدر منه من المعاصي، ندمًا يوجب الانكسار بين يدي الله – عز وجل – والإنابة إليه؛ ومن هنا فلا يُعَدُّ تائبًا ونادمًا ذلك الذي يتحدث بمعاصيه السابقة التي قارفها يفتخر بذلك ويتباهى به؛ بل هذا من المجاهرة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» (رواه البخاري (6069) ومسلم (2990).
والمجاهرون: هم الذين جاهروا بمعاصيهم وأظهروها وكشفوا ما ستر الله عليهم فيتحدثون بها لغير ضرورة ولا حاجة. انظر: «شرح صحيح مسلم» 18/119 للنووي).
رابعًا: العزم الجازم على عدم معاودة الذنب: فيتوب من الذنب وهو يُحَدَّث نفسه ألا يعود في المستقبل، والقصد لتدارك ما فات وإصلاح ما يأتي، ودوام الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت، والعزم الجازم – أيضًا – على فعل المأمور، وترك المحظور، والتزام ذلك طيلة حياته.
وإذا وصل العبد إلى هذه الدرجة من العزم الجازم فلا يضر توبته لله مرة أخرى إن ندم وأسف وسارع إلى التوبة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك» (رواه «البخاري» (7507) و«مسلم» (2758). وانظر لشرحه «فتح الباري» 13/471)ومعنى قوله: فقد غفرت لك. أي ما دمت تذنب ثم تتوب، غفرت لك.
خامسًا: عدم الإصرار على المعصية:
والإصرار: هو عقد القلب على شهوة الذنب، والاستقرار على المخالفة، والعزم على المعاودة؛ لأن التوبة مع الإصرار توبة الكذابين الذين يهجرون الذنوب هجرًا مؤقتًا، يتحينون فيها الفرص المواتية لمعاودة الذنب، وقد بقيت حلاوته في قلوبهم، يتمنون مقارفته ما وجدوا السبيل إليه، وقد شرط الله لوجوب المغفرة ودخول الجنة عدم الإصرار على فعل الفاحشة أو ظلم النفس؛ قال – تعالى -: " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ " [آل عمران: 135، 136].
سادسًا: أن التوبة كما تكون بالقلب واللسان تكون أيضًا بالعمل الصالح الذي يكون ترجمة عملية لما في قلب الإنسان؛ إذ العمل الصالح ينشيء التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية؛ فيعوض التائب ما صرفه من عمره في اللهو والمعصية بالعمل الصالح وفعل الطاعات؛ ليمحق بذلك أثر الخطيئة والسيئات، فإذا تاب وأقلع عن الذنب فينبغي أن يصدق توبته تعويض ما فاته بأعمال صالحة؛ لكي يرجى فلاحه، فليؤد التائب الفرائض وجميع شعب الإيمان البضع والسبعين قدر المستطاع.
سابعًا: أن يستمر التائب في توبته ولا يأتي بما ينقضها ويخالفها؛ إذ الاستمرار في التوبة شرط في صحة كمالها ونفعها.
ثامنًا: من شروط التوبة أن تصدر في زمن قبولها؛ وهو ما قبل حضور الأجل، وطلوع الشمس من مغربها.
بهذا يتضح أن التوبة كلٌ متكاملٌ يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه؛ كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره؛ فمن أتى بشرط وأغفل آخر لا يعتد بتوبته ما لم يحقق بقية الشروط... والله المستعان.
مختارات