" الخاتمــة "
" الخاتمــة "
قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بخواتيهما» [رواه البخاري].
قال المناوي عند شرح هذا الحديث: فعلى الخاتمة سعادة الآخرة وشقاوتها (فيض القدير) جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله»، قال : فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله».
وعن عبد الله بن بسر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله» (الحديث الأول رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والطبراني بإسناد صحيح والحاكم والبيهقي في الزهد وغيره، وحديث عبد الله بن بسر رواه الترمذي وقال: حديث حسن، الترغيب والترهيب).
قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: " أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ " وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة (تفسير ابن كثير).
فمن عمره الله تعالى إلى أن بلغ الستين فأكثر، فليجعله كما مر معنا (سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى)، و(عمر التذكر والتوفيق).
وختاماً أوجز أموراً ينبغي على المسلم الذي بلغه الله هذا العمر أن يأتي بها ويحرص عليها منها:
1- أن يكثر من أن يدعو الله تعالى ببعض ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه المرحلة، مثل: «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي»(متفق عليه)، فإنه لا يدري: أيهما خير له، الموت أم الحياة؟
وكقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل أوسع رزقك على عند كبر سني، وانقطاع عمري» قال المناوي: أي إشرافه على الانقطاع والرحيل من هذه الدار، فإن الإنسان عند الشيخوخة قليل القوة ضعيف الكد عاجز عن السعي فإذا وسع الله عليه رزقه حين ذلك كان عونا له على العبادة (فيض القدير، والحديث راه الحاكم وحسنه الألباني صحيح الجامع ).
2- أن يكثر من الذكر الاستغفار عن خطئه وتقصيره فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية (فتح الباري).
3- أن يزيد من علمه اشرعي لمعرفة مراد الله تعالى، ويستدرك ما فاته، فإنه «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»(متفق عليه).
ولا أحصي عدد المرات التي سمعت فيها الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله يقول عند شرحه هذا الحديث:... إن من معاني هذا الحديث أن (من لم يرد الله به خيرا لا يفقهه في الدين).
وهذا يشمل كل أحد حتى كبير السن، فإن العلم ليس له سن معين، بل الأمر كما قال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة، وكان يقول: عن المحابر في أيدي طلاب العلم: هذه سرج الإسلام (تلبيس إبليس).
ولما قيل لعبد الله بن المبارك: إلى متى تطلب العلم ؟ قال: حتى الممات إن شاء الله (جامعُ بيان العلم وفضله لابن عبد البر).
ويقول الغزالي: فلا يزيد كبر السن للجاهل إلا جهلاً، فالعلم ثمرة العقل وهي غريزة ولا يؤثر الشيب فيها.
وقال أيوب السختياني: أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبع الغلام يتعلم منه.
وقيل لابي عمرو بن العلاء: أيحسن من الشيخ أن يتعلم من الصغير ؟ فقال: إن كان الجهل يقبح به، فالتعلم يحسن به (إحياء علوم الدين).
4- أن يوجه قلبه وهمه إلى الدار الآخرة، حيث لم يبق إلا القليل، وليس بمقبول منه أفعال الشباب وفتوتهم، ولا أعنى أنه يهجر الدنيا ويتركها تماما ولكن كما ذكر سابقا، ينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة.
5- أن يكتب وصيته وماله وما عليه، كما جاء في الحديث المتفق عليه: «ما حقُّ امرئ مسلم له شيءٌ يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته عند رأسه» ولكن عليه أن لا يجوز بأن يزيد أو ينقص في وصيته عما شرعه الله تعالى كأن يخص أحد الورثة بشيء أو يحرم آخرين، أو يوصي بأكثر من الثلث من ماله صدقة بعد موته لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه: «والثلث كثير» (رواه البخاري) أو كما قال صلى الله عليه وسلم «إن الرجل ليعمل بطاعة الله أو المرأة ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضارَّان في الوصية فتجب لهما النار».
والحديث (فيه وعيد شديد وزجر بليغ وتهديد لأن مجرد المضارة في الوصية إذا كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في السنين المتعددة، بلا شك أنها من أشد الذنوب لأن الله سبحانه قد قيد ما شرعه من الوصية بعدم الضِّرار، فتكون الوصية المشتملة على الضرر مخالفة لما شرعه الله تعالى وما كان كذلك فهو معصية، وقد تقدم قريبا عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا بإسناد صحيح أن وصية الضرر من الكبائر، وذلك مما يؤيد معنى الحديث فما أحق وصية الضرار بالإبطال) (الحديث رواه أحمد والترمذي وحسنه وأبو داود وابن ماجة: نيل الأوطار للشوكاني).
والمضارة هي إيصال الضرر بالحرمان أو بما يعد في الشرع نقصاناً إلى بعض من لا يستحق لولا هذه الوصية (عون المعبود).
6- أن يكثر من صلة الأرحام، وتعويض ما قصر فيه تجاههم فيما سلف، والإحسان إليهم لعل الخاتمة تنسي ما قبلها من تقصير أو إساءة.
7- أن يعمل على التحلل ممن أخطأ في حقهم بغيبة أو تعد على حقوق مالية أو معنوية قبل أن لا ينفعه مال ولا بنون.
8- أن يحرص على المكسب الحلال والمطعم والمشرب والملبس «أطيب مطعمك تستجب دعوتك» (رواه ابن مردوية والطرباني، تفسير ابن كثير
9- أن يرسم لنفسه برنامجاً يومياً في الزيادة من الذكر والعبادة يستثمر فيه ما بقي من عمره – خصوصا الأوقات الفاضلة – بحيث لا يتراجع عن هذا البرنامج، ويجاهد نفسه أن لا يتركه، بل يزيد عليه، والأصل أن هذا حال المسلم في كل سن، لكن من وصل إلى هذا السن بها أولى. وأسوق هنا المعالم الأساسية في البرنامج اليومي لرجل صالح عايشته، وسمعت من جيرانه وبعض أقاربه:
*الاستيقاظ قبل الفجر بزمن كافٍ ليصلي ما شاء الله له أن يصلي، ثم يوقظ أهل بيته عند الأذان ويذهب لصلاة الفجر، وبعدها يبقى في مصلاه ذاكرا حتى تطلع الشمس وترتفع فيصلي ركعتين رغبة في أجر حجة وعمرة تامة (رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع، ولمسلم قريب منه ) كما صح عنه صلى الله عليه وسلم.
*الذهاب للمسجد قبل الأذان لقراءة القرآن وصلاة الرواتب والنوافل، وليكون في ميمنة الصف الأول خلف الإمام كما هو حاله دائماً.
*صيام يومي الاثنين والخميس أو أحدهما من كل أسبوع.
*الصلاة من الضحى ما ييسر الله له.
*صلاة المغرب في مسجد فيه محاضرة أو درس علميٌّ ثلاث مرات في الأسبوع، وفي باقي أيام الأسبوع ربما بقي في المسجد القريب من بيته حتى ينتهي من صلاة العشاء في قراءة القرآن والذكر، لأنه قد تيقن أن المرء «إذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة» (متفق عليه).
*في بعض أيام الجمع يبقى في الجامع من صلاة الفجر إلى أن ينتهي من صلاة الجمعة، فإن لم يتيسر له ذلك فلا يفوته التفرغ التام للذكر آخر ساعةٍ من نهار الجمعة.
*وهو يختم القرآن تلاوة كل شهر عدة مرات، ويكاد يختمه حفظاً، وهو لا يحدث بذلك ولكن القريبين منه يلحظون ذلك في استدلالاته، وعند فتحه على إمام نسي أو أخطأ في القراءة في الصلاة من أي موضع من القرآن.
*لا يفوته أن يتصدق كل يوم ولو بشيء يسير، وربما اجتمع له في بعض الأيام الصدقة والصوم وعيادة المريض واتباع جنازة لعله ينال ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» [رواه مسلم].
*وهكذا يكرر هذا الأعمال العظيمة أو أكثرها، فقد وجد فيها متعا لا يذوقها ولا يعرفها إلا من عاش مثلها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة).
مع ملاحظة أنه لم يترك متابعة أمور أبنائه وبيته، ولكنه يفوض ويدرب أبناءه ويشرف عليهم، ويباشر أمور معاشه سويعات قليلة ضحى وبعد العصر، لكن قلبه معلق بالمساجد والدار الآخرة (تهذيب مدارج السالكين لابن القيم).
وهو وغيره من الأخيار يعلمون أن أحسن الكلام كلام الله في كل شأن، فلم يترك الدنيا كلية بل اهتدي بقوله سبحانه وتعالى: " وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ " [القصص:77].
قال الحسن عندها: ما أحل الله لك منها، فإن لك فيه غنى وكفاية.
وقال أيضا: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغك.
وقال الحسن وقتادة: معناه لاتضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك.
قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول قتادة: ثم قال القرطبي: ويا ما أحسن هذا (تفسير القرطبي (20/113) تفسير القرطبي (13/314) وقريبا منه عند ابن كثير (3/636)) .
قال الإمام مسلم (باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، قوله صلى الله عليه وسلم «إذا مات الانسانُ انقطع عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف) (شرح صحيح مسلم).
وأخيراً ليحرص صاحب الستين على أن يستمر عمله بعد موته بإحدى الثلاثة الأمور أو كلها التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(رواه مسلم وغيره).
مختارات