" فوائد حفظ السر ومضار إفشائه "
" فوائد حفظ السر ومضار إفشائه "
مما لا شك فيه أن كتمان السر يساعد على النجاح في الأعمال، ويؤمِّن السالك من أخطار الطريق، ويريح الضمير، ويحفظ للإنسان مكاسب طيبة ما دامت بعيدة عن علم الغير، ولا يتيح للمنافس أو العدو فرصة يظهر بها عليه أو ينال بسببها منه.
وإفشاء السر موجب للضغينة، موقع في الحرج، مفرق بين الأحبة، مخرب للأسرة، مسبب في اضطراب الأمن، ممكِّن للعدو من النيل من الإِنسان أو الجماعة، فقد يكون عند الإِنسان ثروة لو عرف الغير سرها لأغرت اللصوص أو أكثرت الحساد عليه، وقد يكون مشروع علمي لو اطلع الغير عليه لسبقه إليه أو تخطيط حربي لو عرفه العدو لأفاد منه.
ومن أجل ذلك جاء التحذير الشديد من إفشاء السر، وجاء الأمر بحفظه وصيانته، وتأمل قوله تعالى على لسان يعقوب لابنه يوسف حينما قص عليه رؤياه بسجود الكواكب والشمس له: " قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ " [يوسف: 5]، ومن السنة تأمل أيضًا، قال -عليه الصلاة والسلام-: «إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس، يهوي بها أبعد مما بين السماء والأرض، وإن المرء ليزل على لسانه، أشد ما يزل على قدميه» (رواه البيهقي)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها» (صحيح مسلم).
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «استعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود» (السلسلة الصحيحة).
قال علي رضى الله عنه: (سرك أسيرك، فإن تكلمت به صرت أسيره).
وقال عتبة لابنه الوليد: (من كتم سره كان الخيار بيده، ومن أفشاه كان الخيار عليه) (الإحياء).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من استمع إلى خبر قوم وهم له كارهون، صُبّ في أُذنه الآنُك يوم القيامة»(رواه البخاري).
وروى أحمد بسنده عن سعدي بن المقبري قال: (رأيت ابن عمر يناجي رجلاً، فدخل رجل بينهما فضرب صدره وقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تناجى اثنان فلا يدخل بينهما الثالث إلا بإذنهما» (غذاء الألباب).
وحفظ الأسرار وكتمانها أمانة عظيمة، يجب الوفاء بها، وقد حثنا الشرع عليها، وحذَّرنا من فشو الأسرار والتفريط فيها، قال تعالى: " وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا " [الإسراء: 34]، وقال تعالى: " وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ " [المؤمنون: 8] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان» (رواه الطبراني وصححه الألباني).
وعلى من أُودع سرًا أن يحافظ عليه ولا يفشيه أبدًا، وإلا أصبح خائنًا، وهي صفة مشابهة للمنافق الذي إذا اؤتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كُنَّ فيه كانَ مُنَافقًا خًالصًا، ومَن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا: إذَا اؤتُمنَ خَانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَب، وإذَا عَاهَدَ غَدَر، وإذَا خَاصَمَ فجر» (رواه البخاري).
وجاء في حديث عمران بن حصين رضى الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «... إنَّ بَعْدَكُم يَخُونُون ولا يُؤتمنُونَ» (رواه البخاري).
ويقول الكفوي عن عظم المحافظة على الأسرار والحذر من التساهل في التفريط فيها: (أوكد الودائع كتم الأسرار)(الكليات).
وليُعْلم أن أمناء الأسرار عزيز وجودهم، فهم أقل وجودًا من أمناء الأموال، و(حفظ المال أيسر من كتم الأسرار) (أدب الدنيا والدين).
وإذا كان للسر إفشاء فإن مجالات السر كثيرة ومتعددة فقد تكون في القطاع الاقتصادي، والقطاع السياسي، والقطاع الحربي، والقطاع الثقافي وفي جميع القطاعات، وتكون في المصانع والمعامل والمتاجر، ومكاتب الحكومة، والشركات وغيرها وتكون بين أعضاء الأسرة، وفي محيط الأصدقاء والزملاء والعمال وفي جميع المجالات والأوساط وكل المستويات، فكل شيء يُحرص على إخفائه فهو سر، وإذاعته بأي وسيلة جريمة.
ومن الطرائف المبكية ما ذكره اللواء ركن محمود شيت خطاب في كتابه (دروس في الكتمان من الرسول القائد) حيث ذكر حادثة جرت له فقال: لقد كنت في سيارة تنهب الأرض نهبًا في أحد البلاد العربية، فسمعت سائقها يتبجَّح بعرض معلوماته عن المطارات العسكرية وعن أوكار الطائرات الجاثمة فيها.
وكان في السيارة عدد من الركاب لا أعرفهم، فما سمعت أحدًا منهم استنكر أقوال السائق وأمره بالسكوت. وحين تمادى السائق في غيِّه، حاولت أن أضع حدًّا لحديثه، ولكنه زعم أن المعلومات التي ذكرها يعرفها كل إنسان ومن المذهل حقًا أن الركاب الآخرين أَيَّدْوه في ادعائه، انتهى.
وينبغي التنبيه في هذا المقام إلى أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو حق المسلمين، فليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة.
مختارات