" الباحث عن الحقيقة "
" الباحث عن الحقيقة "
عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان» [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
وقصة إسلام سلمان الفارسي وتحريه وطلبه للحق، آفاقٌ ومنارةٌ لا يُدرك شأوها، لسان حاله يقول:
تركنا البحار الزاخرات وراءنا فمن أين يدري الناس أنى توجهنا
عن ابن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي قال: كنت رجلاً فارسيًا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يُقال لها: «جيّ»(بالفتح والتشديد: مدينة ناحية أصبهان القديمة)، وكان أبي دهقانها، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل بي حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، فاجتهدت في المجوسية، حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة، وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فَشُغِلَ في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فأطلعها، وأمرني ببعض ما يريد، فخرجت، ثم قال: لا تحتبس عليَّ، فإنك إن احتبست عليَّ، كنت أهم إلى من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس بحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم، وسمعت أصواتهم، دخلت إليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلواتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خيرٌ من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أَصْلُ هذا الدين؟ قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قلت: كلا والله ! إنه لخير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته، قال: وبعثت إلى النصارى فقلت: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم، فقدم عليهم ركب من الشام، قال: فأخبروني بهم، فقلت: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة، فأخبروني، قال: ففعلوا، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك، قال: فادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها شيئًا اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضًا شديدًا؛ لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا رجل سوء، يأمركم بالصدقة، ويرغبكم فيها، فإذا جئتم بها، كنزها لنفسه، ولم يُعط المساكين، وأريتهم موضع كنزه سبع قلال مملوءة، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا. فصلبوه ثم رموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل جعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً – يعني لا يصلي الخمس – أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا، ما أعلمني أحببت شيئًا قط قبله حبه، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة، فقلت: يا فلان، قد حضرك ما ترى من أمر الله، وإني والله ما أحببت شيئًا قط حبك، فماذا تأمرني وإلى من توصيني؟ قال لي: يا بني والله ما أعلمه إلا رجلاً بالموصل، فأته، فإنك ستجده على مثل حالي، فلما مات وَغُيِّب، لحقت بالموصل، فأتيت صاحبها، فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهد، فقلت له: إن فلانًا أوصاني إليك أن آتيك وأكون معك قال: فأقم أي بني فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة، فقلت له: إن فلانًا أوصى بي إليك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي، وما تأمرني به؟ قال: والله ما أعلم، أي بني، إلا رجلاً بنصيبين فلما دفناه، لحقت بالآخر، فأقمت عنده على مثل حالهم حتى حضره الموت، فأوصى بي إلى رجل من أهل عمورية بالروم، فأتيته فوجدته على مثل حالهم،،اكتسبت حتى كان لي غنيمة وبقيرات. ثم احتضر، فكلمته؛ إلى من يوصي بي؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه.
فلما واريناه، أقمت حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم غنيمتي وبقراتي هذه؟ قالوا: نعم فأعطيتهم إياها وحملوني، حتى إذا جاؤوا بي وادي القرى، ظلموني، فباعوني عبدًا من رجل يهودي بوادي القرى، فوالله لقد رأيت النخل، وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي وما حقت عندي حتى قدم رجل من بني قريظة وادي القرى، فابتاعني من صاحبي، فخرج بي حتى قدمنا المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها، فعرفت نعتها فأقمت في رقي، وبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة، لا يُذكر لي شيء من أمره مع ما أنا فيه من الرق، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء، وأنا أعمل لصاحبي في نخلة له، فوالله إني لفيها إذ جاءه ابن عم له، فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لفي قباء، مجتمعون على رجل جاء من مكة، يزعمون أنه نبي فوالله ما هو إلا أن سمعتها، فأخذتني العرواء – يقول: الرعدة – حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة، وقال: ما لك ولهذا، أقبل على عملك. فقلت: لا شيء، إنما سمعت خبرًا، فأحببت أن أعلمه فلما أمسيت، وكان عندي شيء من طعام، فحملته وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فقلت له: بلغني أنك رجل صالح، وأن معك أصحابًا لك غرباء، وقد كان عندي شيء من الصدقة فرأيتكم أحق مَنْ بهذه البلاد، فهاك هذا، فكل منه قال: فأمسك، وقال لأصحابه: «كلوا» فقلت في نفسي: هذه خلة مما وصف لي صاحبي ثم رجعت، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئًا كان عندي ثم جئته به فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل أصحابه، فقلت: هذه خلتان ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتبع جنازة وعلي شملتان لي وهو في أصحابه، فاستدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف، فلما رآني استدبرته، عرف أني أتثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي: «تحول» فتحولت، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كاتب يا سلمان» فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أعينوا أخاكم» فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين ودية(صغار الفسيل)، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، حتى اجتمعت ثلاثمائة ودية، فقال: «اذهب يا سلمان، ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكون أنا أضعها بيدي» ففقرت لها وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها، جئته وأخبرته، فخرج معي إليها نقرب له الوادي، ويضعه بيده، فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي عليَّ المال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة دجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: «ما فعل الفارسي المكاتب؟» فدعيت له، فقال: «خذها فأد بها ما عليك» قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليَّ؟ قال: «خذها، فإن الله سيؤدي بها عنك» فأخذتها فوزنت لهم منها أربعين أوقية، وأوفيتهم حقهم وعتقت، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرًا، ثم لم يفتني معه مشهدٌ (صلاح الأمة في علو الهمة وقال: رجاله ثقات وإسناده قوي).
مختارات