" عدت ... يا أمي!! "
" عدت... يا أمي!! "
أحببتُ الدنيا... نعم أحببتها واستمتعت بها بطريقتي الخاصة، أحببت ألعابي الصغيرة... دفاتري الصغيرة... قصاصات الشعر التي جمعتها من هنا وهناك، وأقلامي الملونة التي قضيت معها أوقاتًا طويلة أميلها على هذه الورقة حينًا، وأجعلها مستقيمة أحيانًا أخرى، كتب الشعر التي تناثرت على وسادتي وسريري، تلك التي علمتني أن أحلق دائمًا في عالم من الخيال، لا يعيدني إلى الواقع غير طرقات يد والدي ووالدتي على باب غرفتي يدعوانني للطعام، أو مرافقتهم في زيارة، أو تذكيرًا لي بالصلاة، وغالبًا ما كان الرفض أو التجاهل لأغلب طرقاتهما على الباب هي الإجابة.
كثيرًا ما حاولت والدتي أن تخترق عزلتي، ولكني كنت أعتبر تلك المحاولات تطفلاً على عالمي، أعبر عن رفضي له بالكلمات والتصرفات، ولا أنسى ذلك اليوم الذي دخلت فيه والدتي غرفتي... ووجدتني أبكي بشدة، كم هالها منظري، فجلست بقربي تحاول تهدئتي، ولما علمت أن سبب هذا البكاء بسبب قصيدة من الشعر، ما كان منها إلا أن خرجت من الغرفة تسبقها كلمات الاعتراض على تصرفي، وقولها بأنها ستترك الأمر لوالدي ليرى ما الذي يمكنه عمله معي، وتلاحقها اتهاماتي التي أتمتم بها حول عدم تقديرها لمشاعري، أو تفهمهما لرغباتي.
وعلى الرغم من أنني كنت الابنة الوحيدة بين عدد من الأولاد، إلا أنني كنت بعيدة جدًا عن والدتي، أما أبي فقد كانت علاقتي به تقتصر على تذكيره الدائم لي بالصلاة، فقد كان كثير التردد على المحاضرات وحضور الندوات... مهتمًا بعمله... وحتى تلك الدعوات المستمرة والملحة من والدتي لي بالصلاة كنت أقابلها بالتجاهل أحيانًا، وبالادعاء بأنني أديت الصلاة أحيانًا أخرى.
واستمر الحال على ما هو عليه حتى جاء اليوم الذي فتح فيه والدي باب غرفتي دون أن يطرقه، وآثار الهلع بادية على وجهه، وصاح قائلاً: «أسرعي لإعداد حقيبة والدتك فسوف أنقلها للمستشفى لتضع المولود الجديد».
ولكن لم يحن بعد موعد حضور هذا المولود، فقد أتى قبل وقت مولده بشهرين، ولأول مرة أشعر بأنني جزء من هذه العائلة، وعلي أن أتصرف بسرعة، فركضت وأحضرت حقيبة خاصة بي... وبدأت أكتشف أين تضع والدتي ملابسها، وبصعوبة أعددت الحقيبة وأسرعت لأرتدي ثيابي، وفي دقائق معدودة كنت في السيارة مع والدتي، ولأول مرة أدركت أن هذه الإنسانة أحبها جدًا، فمددت يدي للكرسي أمامي، وبحثت عن يدها لأمسك بها وأخفف عنها، وما إن توقفت السيارة أمام المستشفى حتى أخذوا والدتي للداخل، وكأن الساعة توقفت عن الدوران.
بعد مدة طويلة... سأل والدي الممرضة المسؤولة عن حالة أمي، فأخبرته بأن المولود قد تم نقله لجناح الأطفال الخُدَّج، أما والدتي فتم وضعها تحت المراقبة؛ لأنها تعاني من هبوط حاد في الضغط وبعض مضاعفات الولادة؛ أسرع والدي إلى الجناح الخاص بالعناية المركزة للاطمئنان على والدتي... ومنه لجناح الخُدَّج للاطمئنان على أخي الصغير... شعرت في هذه اللحظة برغبة شديدة في مساعدة أمي وأخي الأصغر لاجتياز هذه المحنة، لكني لم أعرف كيف؟ وخلال هذه الأثناء، وفي قمة حيرتي، وقف أبي أمام باب مصلى صغير وأشار لي أن أذهب للباب الآخر... وما إن دخلت حتى وجدتني في غرفة هادئة هدوءًا يشبه ذلك الموجود في غرفتي، وفي إحدى زواياها ورقة صغيرة معلقة كتب عليها بخط جميل: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم " " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ " [الطلاق: 2، 3] أدركت حينها أنني وجدت ضالتي التي غفلت عنها أيامًا... ولكني أعلم أنه لم يغفل عني أبدًا... فبادرت إليه ووقفت للصلاة، وخررت ساجدة، وعلمت علم اليقين أنه ملجئي الوحيد، وملاذي الذي أريد (أسيرة الأحلام ؛ تيسير أحمد الزايد).
مختارات