خلق آدم
خلق آدم
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)} [الحجر: 26].
وقال الله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [ص: 71 - 74].
أول ما خلق الله تبارك وتعالى العرش، ثم خلق القلم، وكتب به المقادير قبل كونها، وخلق آدم آخر المخلوقات، تمهيداً للدار قبل الساكن.
ولكرامته على خالقه، هيأ له مصالحه وحوائجه وأسباب حياته قبل خلقه.
وخلق آدم من أعظم الآيات، فقد جمع الله ما فرقه في العالم في خلق آدم، فهو العالم الصغير، وفيه ما في العالم الكبير، وهو خلاصة الوجود وثمرته.
والنفوس تتطلع دائماً إلى النهايات.. والله عزَّ وجلَّ أخَّر أفضل الكتب.. وأفضل الرسل.. وأفضل الشرائع.. وأفضل الأمم إلى آخر الزمان.. وجعل الآخرة خيراً من الأولى.
فلما افتتح الله عزَّ وجلَّ خلق هذا العالم بالقلم، كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان.
فإن القلم آلة العلم، والإنسان هو العالم.
ولهذا أظهر الله فضل آدم على الملائكة بالعلم الذي خصه به دونهم.
وقد خلق الله جل جلاله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، إظهاراً لشرفه، وأسكنه جنته.
ولما تم خلقه في أحسن تقويم، وظهر كمال آدم على غيره، جرى قدر الله بالذنب، ليتبين أثر العبودية في الذل، وما زالت تلك الأكلة من الشجرة تعاوده وتخيفه، حتى استولى داؤه على أولاده.
فأرسل إليهم اللطيف الخبير الدواء على أيدي من اختارهم، واصطفاهم واجتباهم من أنبيائه ورسله كما قال سبحانه: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38 - 39].
فحماهم الشافي بالمناهي.. وحفظ القوة بالأوامر.. واستفرغ منهم الأخلاط الرديئة بالتوبة.. فجاءت إليهم العافية من كل ناحية.
وتزينت قلوبهم بالإيمان، وتجملت بالتقوى، وتحلت جوارحهم بالطاعات، ورضي عنهم ربهم، وصاروا أئمة في الخير.
ولما سلم لآدم أصل العبودية لم يقدح فيه الذنب، وحين علم اللطيف الخبير أن ذنب عبده لم يكن قصداً لمخالفته، ولا قدحاً في حكمته، علمه كيف يعتذر إليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37].
فآدم - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بمعصيته مخالفة سيده، ولا الجرأة على محارمه، ولكنها غلبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، فألهمه الله التوبة، وقبلها منه.
وفي خلق آدم من الطين سر عجيب، فالطين مركب من أصلين:
الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي.. والتراب الذي جعله الله خزانة المنافع والنعم.
وفي ذلك إشارة إلى أن هذا الإنسان يحمل الهدى الذي به حياة العالم، ويحمل الدين الذي كله منافع.
ومن كرامة الله لآدم أن خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وجميع المخلوقات خلقها الله بأمره، فقال لها: كوني فكانت.
ومن كرامته له كذلك أن أسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها دون غيره من الملائكة، ثم جعل فيه الاستعداد للترقي حتى يصبح كالملائكة، أو الهبوط حتى يكون أسفل من الحيوان فيقضي حياته على طريقة الحيوان، من أكل وشرب ولهو ولعب.
والله تبارك وتعالى عزيز حكيم، ما خلق ذرة في الكون عبثاً.
وقيمة الإنسان ومكانته بين المخلوقات عظيمة.. فمكانته بين السموات والأرض.. كمكانة القلب من الجسم، وبقاء المخلوقات مرهون بوجود الإنسان.. وكما أن القلب إذا فقد هلك البدن.. فكذلك الإنسان إذا فقد أنهى الله هذا الكون وطواه.
وقد خلق الله جميع المخلوقات، وجعل لكل مخلوق مقصداً، وأشرف المخلوقات مقصداً هو الإنسان، وهو من المخلوقات بمنزلة القلب من البدن.
وقد شاء الله عزَّ وجلَّ أن يخلق آدم.. ويستخلفه في الأرض.. فأقدره على أشياء.. وأعجزه عن أشياء.. وعلمه أشياء.. وستر عنه أشياء. وقهره على أشياء.. وجعل له الخيار في أشياء.. وذلك ليستكمل مقومات الخلافة.. ولا ينسى أنه غير أصيل.. فله مرجع يعود إليه.. وقوة أعلى يعود إليها.. ويستعين بها.. تمده بما شاء.
ولم يرسل الله آدم إلى الأرض ليقيم أمر الله دون تدريب عملي، بل جعل له تجربة واقعية يعيش فيها التكليف بأمره ونهيه، وبمقومات التكليف من الغفلة والنسيان، وإغواء الشيطان وتزيينه، قبل أن يهبط إلى الأرض، فإذا أخطأ رده الله إلى الصواب بلطف.
فأسكنه الله الجنة مع زوجه، وأمده بكل ما يحتاج بدون تعب ولا نصب كما قال سبحانه: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118، 119].
ثم استقبل آدم المنهج من ربه أمراً ونهياً: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} [البقرة: 35].
ثم حذر سبحانه آدم من معوقات التكليف خاصة الشيطان فقال: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117].
ثم كان ما كان من الشيطان فأغرى آدم وزوجه بالأكل من الشجرة: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)} [طه: 120].
فأغراهما بالأكل من الشجرة، ليحصل لهما الخلود والملك، وأكد ذلك لهما بصفة الناصح الذي يريد لهما الخير: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 - 22].
ونسي آدم أنه في دور التجربة والتدريب، فأكل وزوجه من الشجرة فماذا حصل لهما؟: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} [الأعراف: 22].
وماذا كان جزاء آدم حين نسي أمر ربه وأكل من الشجرة؟.
كان جزاؤه فقط أن يلقنه الله مولاه كيف يرجع إليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37].
واعترف آدم وزوجه بالذنب، وسألا ربهما أن يغفره لهما ويرحمهما: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].
فاستجاب الله لدعاء آدم، واجتباه وتاب عليه وهداه، كما قال سبحانه: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 122].
وبعد هذه التربية لآدم في الجنة، وبعد ما ظهرت له عداوة الشيطان، وبعد ما علمه الله كيف يتخلص من الذنب، أهبط الله آدم إلى الأرض، ليقوم وذريته بالخلافة فيها، وأهبط معه الشيطان وحذره منه: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)} [الأعراف: 24].
ولما أهبط الله آدم وزوجه إلى الأرض رزقهم الذرية، وأخبرهما بحال إقامتهم فيها، وأنه جعل لهم فيها حياة مشحونة بالامتحان والابتلاء، ثم يتلوها الموت.
وأنهم لا يزالون فيها، يرسل الله إليهم رسله، وينزل عليهم كتبه، حتى يأتيهم الموت فيدفنون فيها، ثم إذا استكملوا بعثهم الله وأخرجهم منها إلى الدار التي هي الدار حقيقة، التي هي دار المقامة كما قال سبحانه: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)} [الأعراف: 25].
ثم امتنَّ عليهم بما يسر لهم من اللباس والطعام والشراب والسكن والمركب، مبيناً لهم أن هذا ليس مقصوداً بالذات، وإنما أنزله الله ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته، وأن لباس التقوى خير لباس يلبسه العبد، وهو جمال القلب والروح كما قال سبحانه: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} [الأعراف: 26].
ثم حذر الله بني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم آدم، فيغريهم بالمعاصي ويزينها لهم، فينقادون له فليحذروا منه: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27].
فآدم أبو البشر، والبشر فيهم المؤمن والكافر، ففي فترة التربية في الجنة كان آدم بشراً عادياً، غفلة وسهواً، ونسياناً وضعفاً.
وفي الطور الثاني يمثل المصطفين الأخيار، المبلغين عن الله، فيجب أن يكون معصوماً، لأنه رسول من الله.
وآدم - صلى الله عليه وسلم - عصى ربه، وإبليس عصى ربه، لكن الفرق أن آدم عصى ولم يرد الأمر على الله، بل اتهم نفسه، وأقر بالظلم والتقصير، والغفلة والنسيان: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].
أما إبليس فقد رد الأمر على ربه وتكبر، وخالف أمر ربه كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34].
وبسبب هذا الإباء والاستكبار طرده الله ولعنه.
فمن رد الأمر على الله ففيه شبه بإبليس، ومن عصى واعتذر وتاب ففيه شبه بآدم - صلى الله عليه وسلم -.
وآدم وزوجه لما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، بدت لهما عوراتهما كما قال سبحانه: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه: 121].
وفي هذا إشارة إلى أن الدين حين يخالف تبدو عورات الناس، فلا عورة في مجتمع إلا إذا كان هناك أمر من أوامرالله قد خولف.
ولما عصى آدم ثم تاب وتاب الله عليه، أهبطه الله إلى الأرض، للقيام بالخلافة، وتنفيذ أوامر الله، وأهبط معه إبليس.
ثم بدأ المنهج الإلهي في الأرض كما قال سبحانه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 123، 124].
ومعصية آدم ذكرها الله سبحانه بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه: 121].
والعصيان قد يكون عمداً فيكون ذنباً.. وقد يكون خطأ أو نسياناً فيكون زلة.. وهذه معصية آدم: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36].
ومما يدل على أن معصية آدم لم تكن عمداً ولا قصداً، بل نسياناً قوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115].
ومن ثم فلا مؤاخذة، لأن الله لا يؤاخذ على الخطأ والنسيان.
وإنما اعتبر القرآن النسيان معصية لآدم، فذلك لمقام آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وعلمه الأسماء كلها.
والذي شأنه هكذا، يجب أن يكون يقظاً كأقوى ما يكون، بحيث لا ينسى وصاية الله له.
ولما علم الله منه أن معصيته لم تكن بسبب الكبْر، بل بسبب الغفلة والنسيان، والشهوة وإغواء الشيطان، ألهمه الله التوبة، وتاب عليه.
وترك الأمر معصية، وارتكاب النهي فسق، وارتكاب النهي أخف من ترك الأمر، وترك الأمر ذنب إبليس، وبسببه أخرج من رحمة الله، وارتكاب النهي ذنب آدم.
وآدم في الجنة أصيب بآفتين: النسيان.. وضعف العزيمة كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115].
وهذان مرضان.. وعلاج الأول بالذكر والتذكير.
وعلاج الثاني بتكوين بيئة الإيمان والأعمال الصالحة.
وآدم في الجنة ليس عنده من يذكره إذا نسي، وليست عنده بيئة الأعمال التي تقوي عزيمته إذا ضعف، وغلبته الشهوة، فسهل التأثير عليه وإغراؤه، فوقع في ارتكاب النهي، وأكل من الشجرة.
وهاتان الآفتان لازمتان لكل إنسان، وشفاء الإنسان منهما بالتذكير، وتكوين بيئة الإيمان والأعمال الصالحة التي تقوي عزيمته إذا ضعف.
والله سبحانه ابتلى آدم وذريته بأن حبب لكل إنسان حب الخلد، وحب الملك الذي لا يبلى، وبهما تمكن الشيطان من إغواء آدم.
ولما كان هذا نسياناً من آدم للعهد ألهمه الله أن يتوب: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37].
وقد منَّ الله على آدم بنعم كثيرة، وعلمه الإيمان والتوحيد، ومعرفة ربه، وألهمه اليقين على ذاته وأسمائه وصفاته، وحذره من عدوه الشيطان بقوله: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117].
وإبليس أول من اجتهد لتغيير اليقين على ذات الله، إلى اليقين على الأشياء، بإغراء آدم بالأكل من الشجرة، ليحصل له الملك والخلد.
فالشيطان أول من أفسد يقين آدم.. ولا يزال يفسد يقين ذريته.. فهو جاهد على البشر.. ليحول يقينهم على ربهم، إلى اليقين على المخلوق.. ويشغلهم بالأموال والأشياء عن الإيمان والأعمال الصالحة.. ويزين لهم العادات والتقاليد بدل السنن والأحكام.. ويغريهم بالخلود في الدنيا.. وينسيهم ذكر الموت والآخرة.
ولكن الله تاب على آدم وهداه، وحذر ذريته من طاعة عدوهم الشيطان الذي غر أباهم، حتى وقع في المعصية.
وآدم لما طلب الخلود في الجنة من جانب الشجرة التي أغراه الشيطان بالأكل منها، عوقب بالخروج منها.
وكذلك يوسف لما طلب الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا، عوقب باللبث فيه بضع سنين.
وذلك كله بإغواء الشيطان وتزيينه، وحرصه على إفساد يقين العباد، ليعصوا ربهم، ويطيعوه فيهلكون معه.
وحين خلق الله آدم قال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30].
فقال الله لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].
لقد خلق الله آدم، وأكرمه وأسكنه جنته، وابتلاه ليربيه، فسلط عليه عدوه بعد أن حذره منه، ولكنه ضعف وعصى ربه، فأهبطه الله إلى الأرض.
هبط إلى الأرض مؤمناً بربه، مستغفراً من ذنبه، مأخوذاً عليه عهد الخلافة أن يتبع ما يأتيه من ربه، ولا يتبع الشيطان والهوى.
ثم مضى به الزمن، وجاءت ذريته، وبث الله من نسله رجالاً كثيراً ونساء.
وحل بالإنسان ما حل بأبيه آدم من النسيان والضعف.. وتسلط عليه الشيطان.. وأغراه بالمعاصي.. وزينها له كما فعل بأبيه، فغلبه الشيطان كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].
لقد هبط آدم إلى الأرض موحداً مهتدياً تائباً، ولكن ها نحن نرى أكثر البشرية ضالاً مفترياً، ظالماً كذاباً، مشركاً معانداً لرسل ربه، فلا بد من الإنقاذ مرة أخرى.
ومن رحمة الله بالبشرية، أنه كلما انحرفت عن منهج الله، بعث إليها رسولاً يردها إليه، حتى ختمهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وتسلمت أمته من بعده إبلاغ هذا الدين والقيام عليه في أنحاء الأرض كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
والمنهج هو الهدى الذي أرسل الله به رسله:
دعوة إلى التوحيد والإيمان بالله.. وترغيب في الطاعات.. وتحذير من المعاصي.. وأمر بكل خير.. وتحذير من كل شر.
وقيمة الشيء ترتفع بقدر ما فيه من الصفات، وكذلك قيمة المسلم عند الله ترتفع بقدر ما يحمل من الإيمان، وما يقوم به من الأعمال الصالحة.
وبنو آدم كثيرون، ولكن الله اشترى منهم أحسنهم وأفضلهم وأكملهم، وهم المؤمنون، فهؤلاء خير الناس، وأحسن الناس، وأغلى الناس.
والسلعة إذا خفي عليك قدرها.. وأردت أن تعرف قيمتها.
فانظر المشتري لها من هو؟، وانظر إلى الثمن المبذول فيها؟، وانظر إلى من جرى على يديه عقد الشراء؟.
فالسلعة النفس المؤمنة.. والمشتري لها هو الله عزَّ وجلَّ.. وثمنها جنات النعيم.. والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة، وأكرمهم عليه، وهو جبريل - صلى الله عليه وسلم -.. وخير خلقه من البشر، وأكرمهم عليه، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وصفات هذه السلعة الإيمان والأعمال الصالحة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].
لقد خلق الله آدم من الأرض، فمن الطين كوّن الله كل عناصر جسده، فيما عدا سر الحياة الذي لا يدري أحد كيف جاء، وفيما عدا تلك النفخة العلوية التي جعلت منه إنساناً.
ونحن نجهل كنه هذه النفخة، وهذه الروح، فما أحد يعلمها إلا الله كما قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].
ولكننا نعرف آثارها، فآثارها هي التي ميزت هذا الكائن الإنساني عن سائر الخلائق في هذه الأرض.
ميزته بالقابلية للرقي العقلي والروحي، فجعلت عقله ينظر تجارب الماضي، ويصمم خطط المستقبل، ويتقي ويحذر.
وجعلت روحه تتجاوز المدرك بالحواس، والمدرك بالعقول، ليتصل بالغيب المجهول للحواس والعقول.
وخاصية الارتقاء العقلي والروحي خاصية إنسانية بحتة، لا يشاركه فيها أحد من الأحياء في هذه الأرض سوى الجن.
لقد نفخ الله عزَّ وجلَّ من روحه في هذا الكائن البشري، لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض، وأن يتسلم بأمر الله مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها الله له، وهي الخلافة في الأرض كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا} [البقرة: 30].
وقد أودع الله الإنسان القدرة على المعرفة، ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بربه، واستمد منه منهج الحياة، وقام بأمر الخلافة الراشدة.
وما كان لهذا الإنسان الصغير الحجم، القصير الأجل، المحدود المعرفه، أن ينال شيئاً من هذه الكرامة، لولا لطف ربه وكرمه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70].
فلله كم كرامة؟، وكم نعمة؟، وكم رحمة حصلت للبشرية في خلق آدم.. وفي سجود الملائكة له.. وفي سكنه الجنة.. وفي إهباطه إلى الأرض.. وفي كونه خليفة في الأرض.. وفي نسله وذريته..؟
فقد أظهر الله فضل آدم على الملائكة بما خصه من العلم الذي لم تعلمه الملائكة.
وأمرهم بالسجود له تكريماً له، وإظهاراً لفضله، وامتحانهم بالسجود لمن زعموا أنه يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، فأسجدهم له، وأظهر فضله عليهم، لما أثنوا على أنفسهم، وذموا الخليفة الذي اصطفاه ربهم.
واستخرج سبحانه ما كان كامناً في نفس إبليس من الكبر والمعصية، والذي ظهر عند أمره بالسجود مع الملائكة لآدم.
فاستحق اللعنة والطرد والإبعاد على ما كان كامناً في نفسه، والله يعلم ذلك، ولكن لم يكن ليعاقبه على ما علمه، بل على وقوع معلومه، الذي لم تكن الملائكة تعلمه، فلما امتنع من السجود علموا خبثه.
وسبب معصية إبليس الاستكبار والإباء والكفر، وإنما ذكر تلك الشبهة تعنتاً، إذ ليس في أمره بالسجود لآدم ما يناقض الحكمة بوجه.
وشبهة إبليس الداحضة، أنه قال: إنه خلق من نار، وآدم خلق من طين، والنار خير من الطين، فهو خير من آدم، فكيف يخضع له.
كما قال سبحانه لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12].
فلما امتنع إبليس من السجود، وعصى ربه واستكبر، حطه الله من مرتبته العالية إلى أسفل سافلين، وأهبطه من الجنة، لأنها دار الطيبين الطاهرين، فلا تليق بأخبث خلق الله وأشرهم، فأهبط إلى الأرض ذليلاً مهاناً، جزاء على كبره وعجبه كما قال سبحانه: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} [الأعراف: 13].
وشبهة إبليس باطلة حساً وعقلاً وشرعاً.
فإن الطين والتراب خير من النار، فإن النار طبعها الفساد والإتلاف، والتراب طبعه النفع والإنبات، والنار طبعها الخفة والطيش، والتراب طبعه الرزانة والسكون، والتراب يخلق الله فيه أرزاق الحيوان ولباسهم ومساكنهم، بخلاف النار التي تحرق كل شيء، والتراب إذا وضع فيه الحب أخرجه أضعافاً كثيرة، بخلاف النار التي تأكل كل ما يوضع فيها.
والأرض وصفها الله بالبركة، وأما النار فهي مذهبة للبركة، وأودع الله في الأرض من المنافع والأقوات، والثمار والأشجار، والمعادن والعيون، والنبات والحيوان وغيرها، ما لم يودع في النار شيئاً منه.
والنار وإن كان فيها بعض المنافع فالشر كامن فيها.
وقد استخرج الله من هذا الخليفة وذريته الأنبياء والرسل.. والعباد والعلماء.. والمجاهدين والمتصدقين.. والأولياء والمؤمنين، وعمر بهم الجنة، وميز الخبيث من ذريته من الطيب، وعمر بهم النار.
وقد خلق الله آدم عليه السلام في أحسن تقويم.. وأكمل صورة وأجملها.. وأكمل محاسنه الباطنة بالعلم والحلم والوقار.. وتولى ربه خلقه بيده.. فجاء في أحسن خلق.. وأجمل صورة.. طوله في السماء ستون ذراعاً.. قد ألبس رداء الجمال والحسن.. والمهابة والبهاء.
فرأت الملائكة منظراً لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا كلهم سجوداً بأمر ربهم عزَّ وجلَّ، إلا إبليس فإنه امتنع عن السجود حسداً كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34].
والله سبحانه لكمال قدرته خلق خلقه أصنافاً:
فمنهم عقول بلا شهوات كالملائكة.. ومنهم شهوات بلا عقول كالحيوانات.. ومنهم من له عقل وشهوة كالإنس والجن.. ومنهم من لا عقل له ولا شهوة كباقي المخلوقات من جماد ونبات.
وقد اقتضت حكمة الله تفضيل بني آدم على كثير من خلقه، فميزهم الله وكرمهم بما شاء، وجعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم، فهي عبودية اختيارية، تزاحمها المعارضات والموانع والشهوات.
أما عبودية غيرهم من الملائكة فهي عبودية بلا معارض، إذ هم مجبولون عليها، كما جبلت الشمس على الإنارة.
والله تبارك وتعالى سبق في علمه أن يجعل في الأرض خليفة، وأعلم بذلك ملائكته، وأسكنه في الجنة، ليربيه ويريه دار النعيم التي أعدها الله له ولأولاده.
فأمره الله ونهاه، وأعلمه بعدوه وحذره منه، ووفر له كل ما يحتاجه في الجنة، وأمره بالأكل من كل شيء في الجنة، ونهاه عن الأكل من شجرة واحدة، وخلى بينه وبين عدوه إبليس، ليمتحن إيمانه وطاعته قبل نزوله إلى ميدان العمل، فوسوس إليه الشيطان بالأكل، فنسي وغلبته الشهوة فأكل.
وخلى بينه وبين نفسه حتى عصى الله، كما قال سبحانه: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [البقرة: 35، 36].
ثم ألهمه الله التوبة فتاب، وتاب الله عليه، وبعد أن كملت تربيته، وعرف عدوه، وعاش في داره، أهبطه الله عزَّ وجلَّ من دار النعيم إلى دار الابتلاء والعمل، ليعود إليها ومن آمن من ذريته على أكمل الوجوه.
فكم لله من حكمة في إهباط آدم إلى الأرض، تعجز الألسن عن وصفها، وتعجز العقول عن إدراكها والإحاطة بها:
منها أن الله أنزل آدم ليكون إيمانه وإيمان ذريته تاماً، والإيمان قول وعمل، وجهاد وصبر، وبذل وترك، وهذا إنما يكون في دار الامتحان لا في جنة النعيم.
ومنها أن الله خلق آدم وذريته ليستعمرهم في الأرض، ويجعلهم خلفاء الأرض.
فخلقهم سبحانه ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم، لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه، فإذا وافوا دار النعيم بعد التعب والكد، عرفوا قدر تلك الدار، وهو أكمل من نعيم من خلق في الجنة من الحور والولدان.
ومنها أن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يتخذ من ذرية آدم رسلاً وأنبياء وشهداء، يحبهم ويحبونه، وينزل عليهم كتبه، يؤثرون محابه ومراضيه على شهواتهم وما يحبونه، فأنزلهم إلى دار الابتلاء ليكملوا مراتب العبودية، ويعبدوه في السراء والضراء بما تكرهه نفوسهم، وهذا لا يحصل في دار النعيم المطلق.
ومنها أن أسماء الله الحسنى كالغفور والرحيم، والعزيز والكريم، والملك والجبار لها آثار، فأنزل الله آدم إلى الأرض، وجعل له ذرية، ليظهر أثر أسمائه وصفاته فيهم، وفيما حولهم من المخلوقات.
فإن الله هو الملك الذي يأمر وينهى، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويثيب ويعاقب، فأنزل أبوي الإنس والجن، إلى دار تجري عليهم فيها هذه الأحكام، ثم يعودون إليه مع ذرياتهم، فيحاسبهم على ما عملوا كما قال سبحانه: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام: 130].
والله تبارك وتعالى هو الملك، الذي يملك كل شيء، له ملك السموات والأرض، وله ملك الدنيا والآخرة، وهو ربنا ونحن عبيده.
وهو مالك الملك.. ولا بد للملك من جنود.. والله له جنود السموات والأرض من ملائكة وغيرهم.. وما يعلم جنود ربك إلا هو.. ولا بد للملك من أوامر تصلح بها أحوال رعيته.. وهي الكتب السماوية المشتملة على الحث والترغيب، والنهي والتحذير.. ولا بد له من سفراء بينه وبين خلقه.. وهم الرسل الذين يبينون للناس ما نزل إليهم من ربهم.. ولا بد أن تكون له محكمة يحاسب فيها من أطاع ومن عصى.. فيجزي على الخير خيراً.. وعلى الشر شراً.. وهي يوم القيامة.
ولا بدَّ له بعد الحساب أن يكرم أهل طاعته بما يسعدهم وهي الجنة، وأن يذل ويهين أهل معصيته بما أعد لهم من العذاب وهي النار.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 98، 99]
مختارات