فقه عظمة الرب - الجزء الثالث
وذلك بأن تبدأ من نفسك فتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة، والظاهرة والباطنة، وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية التي وهبك الله سبحانه.
ثم استحضر في عقلك جميع ما في هذا العالم من أنواع المعادن والتراب، والنبات والحيوان، والإنس والجان.
ثم ضم إليه ما خلق الله سبحانه من البحار والجبال، والمفاوز والتلال، وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات الهباء.
ثم ترقَّ منها إلى بحر الهواء وما فيه من الطيور السابحات كما تسبح الأسماك في بحر الماء، غادية ورائحة، صاعدة وهابطة.
ثم ترقَّ منها إلى السماء الدنيا، وانظر إلى عظمتها وجمالها واتساعها، وكيف زينها الله عزَّ وجلَّ بالنجوم والكواكب المنثورة التي لا تحصى، فهل ترى فيها من فطور: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} [ق: 6].
ثم ترقَّ من سماء إلى سماء لترى عظمة صنع الله الذي أتقن كل شيء.
ثم ترقَّ بعقلك وفكرك حتى تصل إلى سدرة المنتهى، والبيت المعمور، وما يطوف به من الملائكة، واللوح والقلم، والجنة والنار، والعرش والكرسي ترى مَلكاً لا أعظم منه، ومُلكاً لا أعظم منه، وخلقاً لا أعظم منه.
ثم انتقل من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح، واستحضر في عقلك جميع الأرواح العلوية والسفلية، البشرية وغير البشرية.
ثم استحضر جميع الأرواح المتعلقة بالوحي والنبات والجبال والبحار والمياه والأرحام والأقوال والأفعال.
ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا، وملائكة جميع السموات السبع، تجد ما في السموات السبع موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد لربه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)}... [الأنبياء: 19، 20].
ثم استحضر جميع الملائكة الذين يطوفون بالبيت المعمور فوق السماء السابعة، ولكثرتهم من طاف به منهم لا يعود إليه.
ثم استحضر ملائكة الجنة، وخزنة النار، وكثرتهم وعظمة خلقهم.
ثم استحضر جميع الملائكة المقربين، والحافين حول العرش، وجميع حملة العرش، وانظر إلى عظمتهم، وعظمة العرش الذي يحملون، وعظمة التسبيح والتقديس الذي به يتلذذون: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7].
والعرش أعظم المخلوقات وأعلاها وأوسعها، وما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة، والعرش لا يقدر قدره أحد، ولا يعرف عظمته إلا الذي خلقه، والله بعظمته وجلاله وكبريائه مستوٍ على العرش بأعظم الصفات وأوسعها وهي صفة الرحمة كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5].
وإذا عرفنا أن عظمة العرش في مقابل عظمة الله كالذرة بالنسبة للجبل، علمنا أن خالق هذا الكون، وفاطر هذا العالم، هو الله العظيم الذي لا أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، الغني الذي لا أغنى منه، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
فأعظم الطاعات معرفة الله سبحانه، وعبادته وحده لا شريك له، وحسن الظن به كما قال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19].
وأعظم المعاصي الجهل بالله عزَّ وجلَّ، وسوء الظن به، فالمسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، فأي ضلال وجهل وسوء فوق هذا؟.
ولهذا توعد الله سبحانه هؤلاء بما لم يتوعد به غيرهم: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6].
وقال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لقومه: {مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 85 - 87].
أي فما ظنكم بربكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم معه غيره؟.
وما ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟.
وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبادة غيره؟.
فلو ظننتم به ما هو أهله سبحانه من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، لما عبدتم معه غيره.
ولو علمتم أن الله قائم بالقسط على خلقه وحده، وأنه المتفرد بتدبير خلقه، لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور كلها فلا يخفى عليه خافية من خلقه، لما عبدتم معه غيره.
ولو علمتم أن الله وحده هو الكافي لعباده فلا يحتاج إلى معين، وهو الرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، لما توكلتم إلا عليه، ولما عبدتم معه غيره.
إن الملوك والرؤساء والأمراء لعجزهم وجهلهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، وإلى من يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يستعطفهم ويسترحمهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة، لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم.
أما القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه ينقص بحق ربوبيته وألوهيته وتوحيده وكماله، وظن به ظن السوء.
إن الله تبارك وتعالى وحده هو الرب العظيم، الذي يستحق لذاته كمال التعظيم والإجلال، وكمال التأله والخضوع، وهذا خالص حقه سبحانه.
فمن أقبح الظلم أن يُعطى حقه لغيره، أو يُشرك معه فيه غيره، لا سيما إذا كان الذي جُعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه كما قال سبحانه: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)}... [الروم: 28].
فما قدر الله حق قدره من جهل عظمته وقدرته وكبرياءه، وأشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه.
وما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}... [الزمر: 67].
وما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره ممن لا يقدر على خلق شيء، ولا خلق أضعف شيء: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73، 74].
وما قدر الله حق قدره من قال إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل عليهم كتاباً، بل نسبه إلى ما لا يليق به، ولا يحسن به، من إهمال خلقه، وإضاعتهم وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً وعبثاً: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91].
ولا قدر الله حق قدره من جعل له صاحبةً وولداً، أو جعله سبحانه يحل في مخلوقاته، أو نسبه إلى الفقر، وهو الغني الذي له ما في السموات وما في الأرض.
ولم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين من أجله المشاق بأفضل كرامته: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27].
ولم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، وهان عليه نهيه فارتكبه، وهان عليه حقه فضيعه، وهان عليه ذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه فلم يذكره، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق عنده أهم من طاعته، يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه وهو في قبضته، وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل جوارحه وقلبه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} [نوح: 13 - 16].
وما قدر الله حق قدره من يستحي من الناس، ولا يستحيي من الله، فيسكن في أرضه، ويأكل من رزقه، ويبارزه بالمعاصي ليلاً ونهاراً.
ولا قدر الله حق قدره من يخشى الناس ولا يخشى الله، فيخاف من العاجز الذليل، ولا يبالي بالقوي العزيز الذي له ملك السموات والأرض.
ولا قدر الله حق قدره من يعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، ويعامل الله بأهون ما عنده، إن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد والإتقان، وإن قام في حق ربه قام قياماً لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله، وبذل له من ماله ما يستحي أن يعطيه مخلوقاً مثله.
فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟
وهل قدر الله حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه، من الإجلال والتعظيم، والطاعة والمحبة، والخضوع والذل، والرجاء والخوف؟.
فلو جعل لله من أقرب الخلق إليه شريكاً في ذلك، لكان ذلك جرأةً وتوثباً على محض حقه، واستهانةً به، وتشريكاً بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه.
فكيف إذا أشرك بينه وبين أبغض الخلق إليه، وأهونهم عليه، وأمقتهم عنده، وهو الشيطان الذي حذرنا الله منه بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [يس: 60، 61].
فسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، الغني عما سواه.
وسبحان الذي له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير.
وسبحان من بيده الإيجاد والإنشاء، والإماتة والإحياء، والإعادة والإبداء، وكل يوم هو في شأن.
وسبحان العظيم الذي خلق العظمة والقوة في جميع المخلوقات، فكل عظمة وقوة في المخلوقات كالعرش والكرسي والسموات والأرض، والجبال والبحار، والإنسان والحيوان، وكافة المخلوقات فمن عظمته وقوته سبحانه.
وعظمة جميع الكائنات بالنسبة لعظمته كالذرة بالنسبة للجبل وخزائنة مملوءة بكل شيء لا تنقص مع كثرة الإنفاق.
فهو سبحانه العلي العظيم الذي لا عظيم سواه، ولا منتهى لعظمته وجلاله وكبريائه الذي «يُمْسِكُ السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أنَا الْمَلِكُ، أنَا الْمَلِكُ» متفق عليه (1).
وهو سبحانه العظيم.. الذي خلق كل عظيم.. المالك لكل عظيم.. وخزائنه مملوءة بكل عظيم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67].
واذا عرف الإنسان أن ربه العظيم بيده كل شيء أحبه وعظمه.. وتوكل عليه.. وخافه ورجاه.. وأقبل على طاعته.. واجتنب معاصيه.. وتلذذ بعبادته: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} [يونس: 3].
_________
مختارات