إلى رحمة الله يا صالح
صالح شاب عربي.امتلأ قلبه إيماناً، وجسمه نشاطاً وقوة.. كانت أمنيته أن يرقه الشهادة في سبيله، ويلحقه بركب الشهداء الأبرار، فحقق الله أمنيته ولكن...
أحد الإخوة كان مع صالح لحظة ودع الدنيا، حدثني فقال:
كما مجموعة من الشباب لا يجمع بيننا حسب ولا نسب إلا الأخُوَّةُ في الله، قررنا ذات يوم القيام برحلة خلوية، نستعيد فيها نشاطنا، ونستجمع قوانا، وانطلقنا..وهناك..وعبد أن صلينا الفجر ؛ خرجنا مهرولين، هتفانا: " الله أكبر " ونشيدنا:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
ظللنا على هذه الحال قرابة ساعتين ونصف الساعة حتى أصابنا الإعياء من شدة التعب...كان صالح – رحمه اله – أكثرنا حماساً، وأشدنا بأساً..كان يجري وقلبه يتفطر ألماً وحسرة، وكأنه على مشارف الأقصى ليحرره من أيدي اليهود الغاصبين، ولسان حاله يقوله: هاأنذا قادم إليكم ولنعيد أقدسنا ونصلي في أقصانا..
وبعد تلك الجولة المرهقة ؛ أوينا إلى شجرة وارفة الظلال حول إحدى العيون.. كانت السماء صافية، والجو ساكناً، والصمت يخيم على أرجاء المكان، يقطعه أصوات العصافير وهي تنشد أشعارها فوق أغصان الأشجار..
كنا نتحدث، ويمازح بعضنا بعضاً فترتد أصداء أصواتنا من الجبال القريبة منا فنتذكر تسبيح الجبال مع داود – عليه السلام – فيزيدنا ذلك إيماناً بالله، واعترافاً بعظمته – سبحانه -.
ولما افتربنا من عيرن الماء، تاقت أنفسنا إلى السباحة، فنزلنا جميعاً إلا صالحاً ظل واقفاً في مكانه ينظر إلينا وكأنها نظرة مودع... دعوته إلى النزول فأبدى عدم رغبته في ذلك، وكان قد نسي ملابس السباحة... لكنه بعد لحظات أقبل علينا وقد لبس ملابس رياضية استعارها من أحد الأخوة، ولما هم أن يلقي بنفسه في الماء ؛ التفت فرأى رجلاً من بعيد في يده سيجارة، فأبى إلا أن يذهب إليه وينصحه، فاستجاب الرجل، وألقى ما في يده.. وعاد صلح..ووقف على حافة العين، وكأنه يريد منا أن نفسح له ليأخذ مكانه بيننا..فقضينا وقتاً ممتعاً داخل تلك العين، ولم نكن نعلم أن ملك الموت كان قريباً منا في تلك اللحظات.. لقد كان في تلك العين فتحة صغيرة تسمى (القصبة) قطرها لا يزيد عن قطر إطار السيارة.. كان الأطفال الصغار يدخلونها، ويذهبون إلى قرابة مترين ونصف المتر تحت الماء حتى يصلوا إلى منطقة فيها منسم، فيستريحون قليلاً ثم يخرجون..وكثيراً ما كنا نفكر في اقتحام هذه القصبة، لكنّ أحداً منا لم يجرؤ على ذلك، مع أن الأمر يبدو في ظاهره سهلاً..
وفجأة، ونحن مشغولون بمطاردة الكائنات المائية الصغيرة، ينسل صالح ويدخل لك القصبة، وكأنه يريد أن يقول لنفسه: إذا كنت اليوم تخافين دخول مثل هذه القصبة، فكيف بد غداً إذا لقيتِ أعداء الله في أعماق البحار وقمم الجبال..
" أوصيك بالتسجيلات " () قالها صالح لأحد الإخوة، وهي أخر كلمة سمعناها منه فلم نلقِ لها بالاً...
وحضر طعام الإفطار.. كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً...انتظرنا صالحاً فلم يأتِ، فقلنا: لعله ذهب لقضاء الحاجة أو نحو ذلك... وطال انتظارنا فأصابنا القلق.. وطفقنا نبحث عنه يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً فلم نعثر له على أثر...
أين ذهب صالحٌ؟! سؤال دار في أذهاننا جميعاً... لكنا لم نجد له جواباً...
وبعد ساعة من الزمن ساورتنا الشكوك وخشينا أن يكون داخل العين، ولكننا استبعدنا ذلك، ومع ذلك حاول بعضنا دخول القصبة وإزالة الشك باليقين، ولكن لا جدوى ؛ فقد كانت ضيقة، والدخول فيها يعد مخاطرة.
وأكرمنا الله - عز وجل – بمجيء صبي صغير ماهر في السباحة، فطلبنا منه الدخول والتحري، وبعد دقائق خرج إلينا وكلنا ننظر إليه في لهفة ووجل، فقال: لا أحد هنا.. كدنا نطير من الفرح، وحمدنا الله – عز وجل – فصالح لا يزال بخير إن شاء الله... لكنا فرحتنا لم تدم طويلاً ؛ فقد جاء أحد المزارعين من أهل المنطقة وأخبرنا أن ماء هذا العين يخرج من هاهنا – وأشار إلى ناحية منها – ثم قال: أرى أن الماء لا يخرج كالعادة، وأظن أن صاحبكم داخل العين قد حبس خروج الماء بجسمه..
نظر بعضنا إلى بعض وقد عقدت الدهشة ألسنتنا، وأيقنا أن صالحاً – إن كان الأمر كما قال هذا الرجل – لن يخرج حياً.. فلا أحد يستطيع البقاء داخل تلك القصبة أكثر من دقائق معدودة.
الرجل المدخن الذي نصحه صالح كان قريباً منا يسمع ما نقول: وكان ماهراً في السباحة فقال: أنا آتيكم بالخبر اليقين... ولم يمض دقائق معدودة حتى عاد إلينا فزعاً، وقال: إن صاحبكم داخل القصبة، واظنه لم يمت بعد..
فأسرعنا وطلبنا الدفاع المدني، ولكن بعد فوات الأوان، فخرج صالح، ولكن خرج جثة هامدة بلا روح... وقد ظهر على جسمه علامات وقشوط تدل على أنه لاقى من شدة الموت وسكراته ما تتصدع منه الجبال...
ومن الذي دلّ على موته؟ إنه الرجل الذي نصحه صالح قبل وفاته بزمن يسير... رحمك الله يا صالح... شهيد إن شاء الله.. فأنت غريق ().
وأنت داعية قبل موتك بدقائق، تقول: يا أخي، اترك التدخين فإنه حرام ومدمر..
لقد صدق الله فصدقه الله - عز وجل -، فقد رآه أحد الإخوة بعد موته في صورة بهية ومعه زوجة حسناء.
وقد صلى عليه جمع غفير من الناس، وضجت الأصوات بالبكاء، فقد كان باراً بوالديه وإخوانه..
صالح... إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك أيا أبا أسامة لمحزون...
مختارات