باب ما ورد في خلق آدم عليه السلام (٢)
وقوله ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة: ٣٤] هذا إكرامٌ عظيم من اللَّه تعالى لآدمَ، حين خلقَه بيده، ونفخَ فيه من روحه، كما قال: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٢٩] فهذه أربع تشريفات: خَلْقهُ له بيده الكريمة، ونَفْخُه فيه من روحه، وأمْرُهُ ملائكتَه بالسجود له، وتعليمُه أسماءَ الأشياء.
ولهذا قال له موسى الكليمُ حين اجتمعَ هو وإيَّاه في الملأ الأعلى وتناظرا، كما سيأتي: أنت آدم أبو البشر، الذي خلقكَ اللَّه بيده، ونفخَ فيك من رُوحه، وأسجدَ لكَ ملائكتَه، وعلَّمكَ أسماءَ كل شيء.
وهكذا يقولُ أهلُ المحشر يومَ القيامة كما تقدَّم وكما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
وقال في الآية الأخرى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١١ - ١٢].
قال الحسن البصري: قاسَ إبليسُ وهو أول من قاس.
وقال محمد بن سيرين: أوَّلُ منْ قاسَ إبليسُ، وما عُبدت الشمسُ ولا القمرُ إلا بالمقاييس.
رواهما ابن جرير (١).
ومعنى هذا أنه نظرَ نفسَه بطريق المقايسة بينه وبين آدمَ، فرأى نفسه أشرفَ من آدمَ، فامتنعَ من السجود له، مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود.
والقياسُ إذا كان مقابلًا للنَّص كان فاسدَ الاعتبار، ثم هو فاسدٌ في نفسه، فإنَّ الطينَ أنفعُ وخيرٌ من النَّار، فإنَّ الطينَ فيه الرَّزانةُ والحِلْمُ والأناةُ والنموُّ، والنَّارُ فيها الطَّيْشُ والخِفَّةُ والسُّرعةُ والإحراقُ.
ثم آدمُ شرَّفه اللَّه بخَلْقِه له بيده، ونَفْخه فيه من روحِه، ولهذا أمرَ الملائكةَ بالسجود له، كما قال: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الحجر: ٢٨ - ٣٥].
استحقَّ هذا من اللَّه تعالى، لأنه استلزمَ تنقَّصه لآدمَ وازدراؤهُ به، وترفُّعه عليه مخالفةَ الأمر الإلَهي، ومعاندةَ الحقِّ في النَّص على آدمَ على التَّعيين، وشرعَ في الاعتذار بما لا يُجدي شيئًا، وكان اعتذارُه أشدَّ من ذنبه، كما قال تعالى في سورة سبحان: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (٦١) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (٦٢) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (٦٤) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ [الإسراء: ٦١ - ٦٥] وقال في سورة الكهف: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠] أي: خرجَ عن طاعة اللَّه عَمْدًا وعِنادًا، واستكبارًا عن امتثال أمره، وما ذاكَ إلا لأنه خانه طَبْعه، ومادَّتُه الخبيثة أحوج ما كان إليها فإنَّه مخلوقٌ من نارٍ كما قال، وكما قدَّمنا في صحيح مسلم (٢): عن عائشةَ، عن رسول اللَّه ﷺ قال: "خُلِقت الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجَانُّ من مارجٍ من نار، وخُلِقَ آدمُ مما وُصِفَ لكم".
قال الحسن البصري: لم يكن إبليسُ من الملائكة طَرْفة عين قط.
وقال شهر بن حوشب: كان من الجنِّ، فلما أفسدوا في الأرض بعثَ اللَّه إليهم جندًا من الملائكة فقتلوهم وأجلوهم إلى جزائر البحار، وكان إبليسُ ممن أُسِرَ، فأخذوه معهم إلى السماء فكانَ هناك، فلما أُمِرَتِ الملائكةُ بالسجود امتنعَ إبليسُ منه.
وقال ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة وسعيدُ بن المسيَّب وآخرون: كان إبليسُ رئيسَ الملائكة بالسماء الدنيا (٣).
قال ابنُ عبَّاس (٤): وكان اسمه عزازيل.
وفي رواية: الحارث، قال النقَّاش: وكنيتُه "أبو كردوس" قال ابن عباس: وكان من حيٍّ من الملائكة يُقال له الجنُّ، وكانوا خُزَّان الجِنانِ، وكان من أشرفهم، ومن أكثرهم علمًا وعبادة، وكان من أولي الأجنحة الأربعة فمسخَه اللَّه شيطانًا رجيمًا.
وقال في سورة ص: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٧٤) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٧١ - ٨٥].
وقال في سورة الأعراف: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٦ - ١٧] أي: بسبب إغوائك إيَّاي لأقعدنَّ لهم كل مَرْصد ولآتينَّهم من كلِّ جهة منهم، فالسعيدُ من خالفَه والشقيُّ من اتَّبعه.
وقال الإمام أحمد (٥): حدَّثنا هاشم بن القاسم، حدَّثنا أبو عقيل -هو عبدُ اللَّه بن عقيل الثقفيِّ- حدَّثنا موسى بن المسيَّب (٦)، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن سَبْرة بن أبي الفاكه، قال: سمعت رسولَ اللَّه ﷺ، قال: "إنَّ الشيطانَ يقعدُ لابن آدمَ بأطرقهِ.
.
" وذكرَ الحديث كما قدَّمنا (٧) في صفة إبليس.
وقد اختلفَ المفسرون في الملائكة المأمورين بالسجود لآدمَ، أهم جميع الملائكة، كما دلَّ عليه عموم الآيات وهو قول الجمهور، أو المرادُ بهم ملائكةُ الأرض، كما رواه ابنُ جرير (٨): من طريقِ الضَّحاك، عن ابن عبَّاس؟ وفيه انقطاعٌ، وفي السياق نكارةٌ، وإن كان بعضُ المتأخرين قد رجَّحه، ولكن الأظهر من السياقات الأولى، ويدل عليه الحديث: وأسجد له ملائكته، وهذا عموم أيضًا واللَّه أعلم.
وقوله تعالى لإبليس ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ [الأعراف: ١٣] و ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا﴾ [الأعراف: ١٨] دليلٌ على أنَّه كان في السماء، فأُمر بالهبوط منها، والخروج من المنزلة والمكانة التي كان قد نالها بعبادته، وتشبُّهه بالملائكة في الطاعة والعبادة، ثم سُلب ذلك بكبره وحسده ومخالفته لربه، فأُهبط إلى الأرض مذؤُوما (٩) مدحورًا (١٠).
(١) المصدر نفسه.
(٢) في صحيحه (٢٩٩٦) في الزهد والرقائق، وأخرجه أحمد (٦/ ١٦٨).
(٣) ولا دليل على ذلك.
(٤) تفسير الطبري (١/ ٢).
(٥) في المسند (٣/ ٤٨٣).
(٦) في المسند: موسى بن المثنى، والصحيح ما أثبته، وهو موسى بن المسيَّب الثقفي البزار.
وانظر الكاشف؛ للذهبي (٢/ ٣٠٨).
وأطراف المسند للحافظ ابن حجر، تحقيق د.
زهير الناصر (٢/ ٤٢٥).
(٧) تقدم ذلك ص (١٠٨).
(٨) في تفسيره (١/ ٢٦١ - ٢٦٢).
(٩) مذؤومًا: مذمومًا بأبلغ الذم.
(١٠) مدحورًا: مقصيًّا، مُبعدًا.
مختارات