فقه الأدب (٢)
وأما الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالقرآن مملوء به:
فرأس الأدب معه الإيمان به.. وكمال التسليم له.. والانقياد لأمره.. وتلقي خبره بالقبول والتصديق، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والقصد والخضوع والذل، والإنابة والتوكل.
فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما:
توحيد المرسل.. وتوحيد متابعة الرسول..
فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)} [النساء: ٦٥].
وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)} [الحجرات: ١].
والتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته.
ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - ألا ترفع الأصوات فوق صوته، فإنه سبب لحبوط الأعمال، فما الرأي برفع الأراء على سنته وما جاء به كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)} [الحجرات: ٢].
ومن الأدب معه ألا يجعل دعاءه كدعاء غيره، كما قال سبحانه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)} [النور: ٦٣].
وأما الأدب مع الخلق: فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم.
فلكل مرتبة أدب خاص.فمع الوالدين أدب خاص، وللأب منهما أدب هو أخص به، وللأم أدب هي أخص به.
وللعالم أدب آخر يليق به.. ومع السلطان أدب يليق به.. وله مع الأفراد أدب يليق بهم.. ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه.. ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته.
ولكل حال من أحوال الإنسان آداب:
فللأكل آداب.. وللشراب آداب.. وللركوب آداب.. وللسفر آداب.. وللدخول والخروج آداب.. وللكلام آداب.. وللنوم آداب.. وللصحة آداب.. وللمرض آداب.. وللمجالس آداب.. وللنكاح آداب.. وهكذا.
وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره.
والأدب حفظ الحد بين الغلو والجفا، فالانحراف إلى أحد طرفي الغلو، والجفا هو قلة الأدب.
والأدب الوقوف في الوسط بين الطرفين، فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها، ولا يتجاوز بها ما جعلت حداً له، فكلاهما عدوان، والله لا يحب المعتدين، والعدوان سوء الأدب.
فإضاعة الأدب بالجفاء كمن لا يكمل أعضاء الوضوء، ولم يوف الصلاة آدابها، وإضاعته بالغلو كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها.
وفي حق الأنبياء:
لا يغلو فيهم كما غلت النصارى.. ولا يجفو عنهم كما جفت اليهود.
فالنصارى عبدوهم، واليهود قتلوهم وكذبوهم، والأمة الوسط المسلمون آمنوا بهم، وعزروهم، ونصروهم واتبعوا ما جاءوا به، كما قال سبحانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)} [الأعراف: ١٥٧].
وأما الأدب في حق الخلق، فلا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها بحيث يشتغل بها عن حقوق الله، أو عن تكليمها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، ولا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية، فإن الطرفين من العدوان الضار، وحقيقة الأدب العدل، وكمال الأدب وحسنه من أعلى درجات العبودية.
مختارات