فقه حسن الخلق (١)
قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} [القلم: ٤].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاقًا» متفق عليه (١).
خلق الله عزَّ وجلَّ هذا الإنسان في أحسن تقويم، وجعله مركباً من جسد وروح، فالجسد مدرك بالبصر، والروح مدركة بالبصيرة، ولكل واحد منهما هيأه وصورة، إما جميلة أو قبيحة.
وخَلْق الإنسان: صورته الظاهرة.. وخُلُق الإنسان: صورته الباطنة.
والنفس المدركة بالبصيرة: أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر، ولذلك عظم الله أمره فقال: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢)} [ص: ٧١ - ٧٢].
فنبه سبحانه على أن الجسد منسوب إلى الطين والروح منسوبة إليه سبحانه.
فالخلق: هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة، فإن كانت الأفعال جميلة سميت خلقاً حسناً.. وإن كانت الأفعال قبيحة سميت خلقاً سيئاً.
والخلق الحسن صفة الأنبياء والصديقين.. والخلق السيء صفة الشياطين والمجرمين.
والأخلاق السيئة سموم قاتلة، تهوي بصاحبها إلى القاع، وتنظم صاحبها في سلك الشياطين.
وحسن الخلق هو الاعتدال، فإذا مال عنه العبد وقع في ضده من سوء الخلق، وهذا الاعتدال تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخالق عزَّ وجلَّ، وكرامة منه لمن شاء من عباده.
فكم من صبي يخلقه الله صادقاً سخياً كريماً حليماً.
وتارة يحصل حسن الخلق بالاكتساب، وذلك بحمل النفس على الأعمال الجالبة للخلق المطلوب.
فمن أراد تحصيل خلق الجود، فليفعل فعل الجواد من البذل، ليصير بذلك طبعاً له، كما أن من أراد أن يكون كاتباً تعاطى فعل الكتابة، إلا أن ذلك يحتاج إلى تكرار ومداومة، كما أن نمو القامة والبدن يحتاج إلى وقت.
وكما أن تعاطي أسباب الفضائل يؤثر في النفس ويغير طباعها، فكذلك مساكنة الكسل والكسالى يصير عادة، فيحرم بسببه كل خير.
وكما لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعات، فإن دوامها يؤثر خيراً، فكذلك لا يستهان بقليل الذنوب، فإن دوامها يؤثر شراً.
وكذلك تكتسب الأخلاق الحسنة بمصاحبة أهل الإيمان والخير، وإنما المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.
والاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم لها ومرض، والنفس في علاجها كالبدن في علاجه، فكما أن البدن لا يخلق كاملاً وإنما يكمل بالتربية بالغذاء، كذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال، وإنما تكمل بالتزكية، وتهذيب الأخلاق بالعلم.
وكما أن البدن إذا كان صحيحاً فشأن الطبيب العمل على حفظ الصحة، وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه.
كذلك النفس إذا كانت زكية طاهرة مهذبة الأخلاق فينبغي للعبد أن يسعى لحفظها، وجلب مزيد القوة إليها.
وإن كانت عديمة الكمال سعى في جلب الكمال إليها.
وكما أن أمراض البدن تعالج بضدها، إن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الأخلاق السيئة التي هي من مرض القلب علاجها بضدها من الأخلاق الحسنة.
فيعالج مرض الكبر بالتواضع.. ومرض الجهل بالعلم.. ومرض البخل بالكرم.. ومرضى السفه بالحلم.. ومرض الظلم بالعدل والإحسان.. وهكذا.
وكما أنه لا بدَّ من احتمال مرارة الدواء، وشدة الصبر عما يشتهي من أجل صلاح البدن، فكذلك لا بدَّ من احتمال مرارة المجاهدة، والصبر على مداومة مرض القلب، بل هو أولى، فإن ألم مرض البدن يخلص منه بالموت، وألم مرض القلب يؤلمه قبل الموت وبعد الموت.
وكل عضو في الإنسان خلقه الله لفعل خاص، فعلامة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل، فمرض العين تعذر الإبصار.. ومرض الأذن تعذر السماع، ومرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلقه الله من أجله وهو الإيمان والعلم، والحكمة والمعرفة، وحب الله تعالى وتعظيمه، وعبادته وشكره، وإيثار ذلك على كل شهوة.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٥٥٩)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٣٢).
مختارات