ذهان الليبرالية
(كتبتها قديما.. قرأتها الآن، فضحكت بشراهة!! وأردت أن تضحكوا معي)
دخل المريض وفي يده ورقة مكتوب عليها " ذهان مرح " وأعطاها الطبيب النفسي، وقال: يا دكتور، ذهبت إلى ثلاث مصحات نفسية، في ثلاث دول إسكندنافية وعربية، وأخرج بنتيجة واحدة " ذهان مرح " وأنا الآن أريد أن تعيد النظر في حالتي، لأني غير مقتنع بنتيجة الجلسات الماضية..
ابتسم الطبيب، وقال: سأنظر في حالتك، ما عليك إلا أن تتحدث.
_ أتحدث عن ماذا ؟
_عن أي شيء ! بما أنّك في المصحة فتحدث.. تحدث بلا قيود..
_ثم ماذا ؟_
ثم أحلل عن طريق التداعيات الكلامية حالتك، وسيكون التحليل دقيقا، ونهائيا..
_أتحدث عن أي شيء يا دكتور ؟
_ نعم أي شيء.. تفضل..
_أولا سأبدأ بالشؤون العامة، حتى أستطيع أن أدلف من خلالها لما هو أعمق، الكبريت ! الكبريت يا سعادة الدكتور حامض، اسأل جدتك وستخبرك بأنه كان حامضا، الحس أي علبة كبريت اليوم، ستجدها مرّة، أتعلم لماذا يا دكتور ؟
_ لماذا ؟
_ لماذا لا تبحث بنفسك، أتعلم أن نسبة ذكاء الفرد تتناقص سنويا بمعدل خمسة في المئة إلى أن تتلاشى، إذا لم يدعم نفسه بقراءات، ومشاهدات، وكتابة شعر ؟ السبب يا سيدي الدكتور هو أن شركات الكبريت والتبغ أصبحت تستورد مادة الكبرياتيك وهي التي تصنّع منها الكبريت من دول شرق أوروبا، وهي دول غنية باليورانيوم المخصب، مما أثر سلبا في جودة الكبريت !أتذكر أيام زمان كان أجدادنا يستخدمون عود الثقاب الواحد لإنضاج كبسة أو ما يوازيها مثل المنسف الأردني، والمطازيز النجدي، أما الآن فيادوب بيضة مسلوقة. وعلى طاري البيض، أنا يا دكتور أكره البيض، والدجاج، والديكة بكل أنواعها وأشكالها، والأرانب، والملوخية إلى حد كبير، وإدام البامية إلى حد ما، والماء المعتدل، والكشري، وليس ذلك بطرا بالنعمة ( معاذ الله ) ولكن لتواجد حمض الإندياليتيكيا بكميات مضاعفة في هذه المأكولات، وما ذكرته إنما ذكرته على سبيل المثال، ومن أراد التوسع فليعد إلى كتب جابر القحطاني وعبد الباسط بدر ومن لفّ لفهم.دكتور: هل تعرف شيئا عن الطب البديل ؟ أعلم أن إجابتك بالنفي، لذلك سأختصر عليك وأقول لك إنّك تعيش في عالم لا يمت إلى الحقيقة بصلة، أتعلم أن قشر البيض يساعد على نمو الشعر ؟ الكراث يسهل الإنجاب، التوت الأسود يقضي على البكتيريا، شحم الضب يساعد على علاج الحساسية، البطيخ الكروي يمتاز ببرودته التي تسهل عملية الهضم، وتجعلها أكثر إمتاعا، جميع الأندية الرياضية العالمية تستعين بأطباء مختصين في الطب البديل لعلاج كدمات اللاعبين، برشلونة يوفر لكل لاعب لبسين رياضيين وكرة سلة، وطبيب بديلي، أنت يا دكتور تعيش في عالم وهمي للغاية.دعنا من الطب، أنا غير مختص في الطب لذلك لا أحب الخوض فيما لا أحسن، كم عدد كواكب المجموعة الشمسية ؟ سيقولون لك سبعة كواكب، كذّابون، عددها ثلاثة فقط، البقية كلّها صنعة إعلامية، أمريكا الآن تريد أن توهمنا بوجود كواكب كثيرة حتى تستغل الشعوب الفقيرة، لتدعم علمت أو لم تعلم وكالة ناسا، أو حلف الناتو، نسيت يا دكتور، قاتل الله النسيان.. المهم لا تصدق كل ما تعرضه الأخبار أو يأتي في المسرحيات المصرية، كل ذلك هراء، أو لأكن دقيقا ثلاثة وأربعين في المئة منه هراء، والباقي لزوم العصر.نحن يا سيدي الدكتور نشكو من مشاكل في أجسادنا، وعقولنا، وأرواحنا، ولكن أتساءل: هل يفيد أن يعيش الإنسان في هذا الوضع دون أن يضع حدا لتأزماته ؟ أعرف طبيب على مستوى عالمي في مستشفى الحرس الوطني الأمريكي مات منتحرا أتعلم لماذا ؟
_لماذا ؟
_ أبناؤه رفضوا أن يساعدوه في أقساط الفيلا ! نحن نعيش توهان حضاري، على مستوى الإنسان بعموم، ليس هناك حقيقة لما تدّعيه المكاتب الفيدرالية من وجود منتزهات على الطريق السريع بين شيكاغو ونيويورك، كل ذلك كذب يا دكتور، لا منتزهات ولا مصحات ولا يحزنون، تطبيل إعلامي، وأنت تعلم أن هذا الكلام لا يقدم ولا يؤخر، ولا يشكل أي ضغوط على البيت البيضاوي، ولكن يبدو أن أمريكا مازالت تعيش الدور باحتراف.أنا يا دكتور لا أستعين بأي مستشار، سواء في مجال الطب أو الأعشاب أو حتى النواحي الأكاديمية البحتة ! ليس لأنهم يتاجرون بالجدل، معاذ الله أن أتهم مسلما، ولكن لأني لا أحب الاعتماد على غيري، أنا واسع الثقافة، أقرأ في كل يوم سبعين صفحة، ولك أن تحسب مجموع الصفحات، ستغدو هائلة في الشهر ثم في السنة وهكذا، هذا غير المنشورات، والدوريات، والاستماع للبرامج بأنواعها.قبل أسبوعين عرضت عليّ قناة لا أريد ذكر اسمها أن أقدم برنامجا سياسيا، فطلبتهم مهلة لمدّة أسبوعين للتفكير، بعد المدّة اتصلت بهم، فإذا بهم يعتذرون قبل أن أعتذر، هل يريدون أن أتخذ قرارا بهذه الدرجة من الحساسية في غضون ساعتين ؟ أنا لا أدّعي أنّ عندي من المعلومات السياسية ما يصل إلى الكتلة الحرجة في هذا المجال، ولكني في المقابل أستطيع صنع نظريات سياسية! ولا يخفاك أو أنّه يخفاك أن فكرة " الشرق أوسطية " مسروقة من مقال نشرته قبل عشرين سنة في المقطّم، مقال بعنوان على ما أذكر " السينتورات وامتشاق المذلة "..محمد حامد الأحمري يقبض مرتبا يتجاوز السبعين ألف في قطر، بينما لا يستطيع أن يصنع كأسا من عصير الليمون لحضرة صاحبة الجلالة ؟ لماذا ؟ لدينا وفرة في الإنتاج وسوء في التوزيع ! لدينا انتهازية مفرطة أدّت إلى انعزالية بحتة.. كلّنا ندعي الحزم، ولكن للأسف آخر الإحصائيات تخبرنا أن اثنان وسبعين في المئة من السعوديين غير حازمين، يعني كل عشرة سعوديين بينهم إحدى عشر متساهلا ؟أحرقت في حياتي ثلاثة كتب فقط ؟ فقامت مظاهرة في شبه جزيرة سيناء ؟ أو بالأصح مظاهرتين، إحداهما سلمية !، كتاب نقد العقل الخالص، وكتاب الشيف رمزي، وكتاب النصوص للصف الخامس الابتدائي ! أعلم أنّك تستغرب من حشر الكتاب الأخير في المجموعة، الكتاب الأخير يحوي على قصيدة من مئة بيت، ويريدون منا أن ننتج ثقافة ؟ المثقف يا عزيزي الدكتور عقل منتج، وليس عقل مستهلك، مئة بيت ! وماذا بقي في عقولنا للنشاط الفكري، ماذا بقي لكتب الجابري، والسعداوي، وعلى أحمد باكثير ؟أشعر أنّك مللت يا دكتور ؟
_لا أبدا واصل.. بما أنّك في المصحة.. فانطلق.. لا تتوقف أبدا..
_هل توصّلت إلى معرفة مشكلتي ؟
_إلى الآن..لا، ولكن واصل..
_عن ماذا تريد أن أحدثك يا دكتور ؟
_ عن أي شيء..
_سأتحدث عن الشيء نفسه، شيء هذه أعم كلمة قالتها العرب، العجم يستخدمون كلمة ثنق، فيقولون: آي دنت نو إني ثنق أباوت يو ثانكيو. أي أنا لا أعلم أي شيء عنك شكرا. وشكرا هذه ضرورة في الثقافة الغربية وهي تقابل كلمة انقلع عندنا.. يستخدمونها بنفس النسبة التي نستخدم بها نحن كلمة انقلع، أو ضف وجهك في رواية..يعرّفون الثقافة أنها معرفة شيء عن كل شيء ! وأنا أكره التعريفات المتهالكة هذه، يعجبني ذلك التعريف الذي يقول إن الثقافة هي ما يتبقى بعد نسيان كل شيء !! أشعر أن الشاعر جوته هو من أبدع هذا التعريف.. فيه نفس فلسفي مذهل..يقول جوته على الأرجح لا بد أن يكون لديك ما تريد كتابته إن أردت أن تكتب قصة، ولكن إن شئت أن تكتب قصيدة، فلا تحتاج إلى شيء تريد كتابته، فقط اكتب ! لذلك فالشعر مليء بالحروف التي تأتي عبثا، هل تصدق أن حرف النون يأتي في قصائد امرئ القيس بلا فائدة ؟ حرف الدال مثلا لا تخلو منه أي قصيدة سينية في التاريخ العربي ؟ البحتري لا يستخدم أي كلمة تدل على الدفء ! وعلى طاري المتنبي، يقول أحدهم: الإنجليز يعشقون شكسبير لا لأنه الأميز، بل لأنّهم يجدون في تراثه أكبر عدد من النصوص التي حفظوها في الصغر، وأنا أنزل هذا الكلام على المتنبي وشوقي ضيف وصعصعة بن صوحان. هل تصدق أن المتنبي على ذيوع شعره، لم يذكر في شعره أي شيء عن البلازما ؟ هذا فظيع، ولكن لا بأس، جل ثقافتنا مجتلبة..يا دكتور هل سمعت بسيول جدة ؟ هل تصدق أن كل ما كتب عن السيول لا حقيقة له في ذاته، نعم له حقيقة باعتبار غيره، لكن التهويل كان البصمة التي اختلطت بفقاعات الخبر، أتعلم معنى فوبيا يا دكتور ؟
_ماذا تعني لديك ؟
_الفوبيا هي الخوف من الخوف، فهي خوف مركب، فعلى سبيل المثال لدينا في السعودية 150 ألف حالة توحد، ولا يوجد ولا مركز للاعتناء بالمتوحدين، بينا يوجد في تل أبيب ثلاث مئة رأس نووي، هنا مشكلة، مصر بأكملها لا يوجد فيها قنبلة ذرية واحدة بينما في شارع واحد من شوارع طهران ثلاث كشكات لبيع الطعمية، مصر نجحت في تصدير الطعمية، ولكنّها فشلت في استيراد النفط، عبارة السلام، كانت تحتوي ثلاثة مليار حبة طعمية، مما سبب في غرقها، التايتينك يا دكتور كانت متجهة إلى الشرق الأوسط لإنشاء وكر للمعارضين الأجانب، ولكن لما كان عدد سكانها أكثر من عدد الأفكار الموجودة على سطحها، غرقت.لماذا تنتهي حياة المواطن العربي بالموت ؟ سؤال يجب أن يطرح، المواطن العربي إنسان مسجون، هذا التعريف المنطقي له، قالت صحيفة لبنانية قبل خمسة عشر سنة عن الحوالي، هذا الرجل إما أن تبتلعه السلطة، أو أن يصاب بجلطة، فأصيب بجلطة، بينما يمارس العبيكان رقصاته الشعبية بمهارة !يكذبون علينا يا دكتور ويقولون الأحلام لا تحدث إلا في النوم، أنا يا دكتور أستطيع أن أحلم وأنا بنصف قواي العقلية، إذا سمعت أحدهم يتحدث عن كامل قواه العقلية فابصق عليه، فهو يكذب، لا وجود للشخص الذي يتمتّع بكامل قواه العقلية، أنا أحلم بأشياء أراها في سقف الغرفة، في الفترة الأخيرة صرت أرى الأشياء على الستائر، أرى رؤساء دول، فلاسفة، أدباء، مقاتلين ! آخر من رأيته من الفلاسفة كان جنكيز خان، وزعم في ذلك الحلم أنه أول من تحدث عن الليبيدو، وأن أبا نواس في كتابه " الصفعة " تحدث عن عقدتي ألكترا وأوديب، ولكنّه سمّى الأولى بعقدة " شاكيرا " والثانية بعدة " سعيد بن وهب "! ارجع للكتاب يا دكتور، مشكلتنا دائما نسمع بكم هائل من المعلومات ثم لا نفكر في العودة إلى المراجع، نحن نبني أفكارنا على رفات الآخرين..
أخرج الدكتور تلك الورقة التي كُتب عليها: ذهان مرح، فمسح ما هو مكتوب فيها.. وكتب وهو ينظر إلى مريضه بحسرة:"ليبرالية "
قال المريض:هل أواصل يا دكتور ؟
قال الدكتور: نعم واصل.. ولكن خارج المصحة هذه المرة !
_أين يا دكتور ؟
_ في الشارع، في البيت، في العمل..في أي مكان.. ولكن خارج المصحة..
_سيحاربني الناس..
_ إذن عليك بالتحدّث في إحدى الصحف.. فلن تحارب هناك..
مختارات