سورة التوبة
آية
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُوا۟ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١١١﴾]
وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله. وإلى العِوَض؛ وهو أكبر الأعواض وأجلها: جنات النعيم. وإلى الثمن المبذول فيها؛ وهو النفس والمال الذي هو أحب الأشياء للإنسان. وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع؛ وهو أشرف الرسل. وبأيِّ كتاب رُقِمَ؟ وهي كتب الله الكبار المنَزلة على أفضل الخلق. السعدي:353.
آية
﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِۦ فِى نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٠٩﴾]
وتأسيس البناء على التقوى والرضوان هو: بحسن النية فيه، وقصد وجه الله، وإظهار شرعه. والتأسيس على شفا جرف هار هو: بفساد النية، وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، فذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البديع. ابن جزي: 369.
آية
﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٠٨﴾]
يستفاد من الآية صحة ما اتفق عليه الصحابة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- مع عمر -رضي الله تعالى عنه- حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعزَّ اللهُ فيه الإسلام... فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بنقلهم أن قوله تعالى: (من أول يوم) أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي نؤرخ به الآن. الألوسي:11/31.
آية
﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٠٨﴾]
المعصية تؤثر في البقاع؛ كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، ونهي عن القيام فيه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد قباء، حتى قال الله فيه: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)؛ ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء كل سبت يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه. السعدي:352.
آية
﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا۟ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًۢا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلَّا ٱلْحُسْنَىٰ ۖ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٠٧﴾]
فدخل في معنى ذلك من بنى أبنية يضاهي بها مساجد المسلمين لغير العبادات المشروعة من المشاهد وغيرها؛ لا سيما إذا كان فيها من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين والإرصاد لأهل النفاق والبدع المحادين لله ورسوله ما يقوى بها شبهها بمسجد الضرار. ابن تيمية:3/447.
آية
﴿ لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِىِّ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١١٧﴾]
فإن قيل: كيف أعاد ذكر التوبة، وقد قال في أول الآية: (لقد تاب الله على النبي)؟ قيل: ذكر التوبة في أول الآية قبل ذكر الذنب، وهو محض الفضل من الله عز وجل، فلما ذكر الذنب أعاد ذكر التوبة، والمراد منه قبولها. البغوي:2/336.
آية
﴿ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١١٦﴾]
ولما كان الإنسان قد ينصره غير قريبه؛ قال: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) أي: فلا توالوا إلا مَن كان من حزبه وأهل حبه وقُربه. وفيه تهديد لمن أقدم على ما ينبغي أن يُتقى؛ لا سيما الملاينة لأعداء الله من المساترين والمصارحين؛ فإن غاية ذلك موالاتهم، وهي لا تغني من الله شيئاً. البقاعي:3/395.
آية
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ أَن يَسْتَغْفِرُوا۟ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓا۟ أُو۟لِى قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١١٣﴾]
فإن النبي والذين آمنوا معه عليهم أن يوافقوا ربهم في رضاه وغضبه، ويوالوا من والاه الله، ويعادوا من عاداه الله. والاستغفار منهم لمن تبين أنه من أصحاب النار منافٍ لذلك، مناقض له. السعدي:253.
آية
﴿ ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلْعَٰبِدُونَ ٱلْحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ٱلْءَامِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١١٢﴾]
(العابدون) أي: المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت؛ فبذلك يكون العبد من العابدين. السعدي:353.
آية
﴿ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا۟ كَآفَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا۟ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُوا۟ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٢٢﴾]
من تعلم علماً فعليه نشره، وبثه في العباد، ونصيحتهم فيه؛ فإن انتشار العلم عن العالم من بركته وأجره الذي يُنَمَّى له، وأما اقتصار العالم على نفسه، وعدم دعوته إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟! وأي نتيجة نتجت من علمه؟! وغايته أن يموت فيموت علمه وثمرته، وهذا غاية الحرمان لمن آتاه الله علماً، ومنحه فهماً. السعدي:355.
آية
﴿ وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا۟ كَآفَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا۟ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُوا۟ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٢٢﴾]
في هذه الآية أيضاً دليل، وإرشاد، وتنبيه لطيف لفائدة مهمة؛ وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها؛ لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً؛ وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب؛ فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور. السعدي:355.
آية
﴿ لِّيَتَفَقَّهُوا۟ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُوا۟ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٢٢﴾]
ثم بين غاية العلم؛ مشيراً إلى أنَّ مَن جعل له غاية غيرها مِن ترفع أو افتخار فقد ضلَّ ضلالاً كبيراً؛ فقال موجباً لقبول خَبَر مَن بلغهم: (لعلهم) أي كلهم (يحذرون) أي: ليكون حالهم حال أهل الخوف من الله بما حصلوا من الفقه؛ لأنه أصل كل خير؛ به تنجلي القلوب فتُقبِل على الخير، وتُعرِض عن الشر... والمراد بالفقه هنا: حفظ الكتاب والسنة، وفهم معانيهما من: الأصول، والفروع، والآداب، والفضائل. البقاعي:3/403.
آية
﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَـُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٌ صَٰلِحٌ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٢٠﴾]
والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة؛ كما قال تعالى: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: (أجرك على قدر نصبك). ابن تيمية:3/461.
آية
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَكُونُوا۟ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١١٩﴾]
يحتمل أن يريد صدق اللسان إذ كانوا هؤلاء الثلاثة قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب؛ فنفعهم الله بذلك، ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان؛ وهو الصدق في الأقوال، والأفعال، والمقاصد، والعزائم. ابن جزي:1/372.
آية
﴿ وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُوا۟ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓا۟ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓا۟ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١١٨﴾]
علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقاً تاماً، وانقطع عن المخلوقين. السعدي:354.
آية
﴿ وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُوا۟ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓا۟ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓا۟ ۚ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١١٨﴾]
توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب ولا يحرج إذا فعله فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة. السعدي:354.
آية
﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٢٨﴾]
(حريص عليكم) فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه، (بالمؤمنين رؤوف رحيم) أي: شديد الرأفة والرحمة بهم؛ أرحم بهم من والديهم. السعدي:357.
آية
﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٢٦﴾]
ولا شك أن الفتنة - التي أشارت إليها الآية- كانت خاصة بأهل النفاق من أمراض تحل بهم، أو متالف تصيب أموالهم، أو جوائح تصيب ثمارهم، أو نقص من أنفسهم ومواليدهم، فإذا حصل شيئان من ذلك في السنة كانت الفتنة مرتين. ابن عاشور:11/67.
آية
﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنًا ۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿١٢٤﴾ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ ﴾ [سورة التوبة آية:﴿١٢٤﴾]
أي: من المنافقين من يقول بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه إيماناً -على وجه الاستخفاف بالقرآن- كأنهم يقولون: أي عجب في هذا؟! وأي دليل في هذا؟! (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً): وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة. (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم):... والمعنى:... زادتهم كفرا ونفاقا إلى كفرهم ونفاقهم. ابن جزي:1/374.