كتاب شموعِ النَّهار للشَّيخ عبد الله بن صالح العجيري
المدرسة المثالية الإلحادية
إنها حالة تم التقاطها وإشاعتها عبر الفيلم الأمريكي الشهير (ذي میترکس) (The Matrix) والذي تضمن في طياته مفاهیم دینية وفلسفية متعددة، ومن بينها هذه الرؤية القائلة بأن إدراكنا متعلق بأفكارنا لا بالعالم الخارجي. مجموع البشرية في هذا الفيلم يعيش في واقع افتراضي مصطنع، قامت بتخليقه
آلات ذات ذكاء صناعي، وهذا الواقع الافتراضي إنما يتم تشكيله في أدمغة البشر من خلال ربطهم ب(الميتركس) دون أن يكون لذلك الواقع تحقق فعلي
خارجي.
حكمــــــة
إذ إنني من واقع بحث مسألة الوجود الإلهي وجدت أن لا نجاة للإنسان، ولا إمكانية الاستبقاء إنسانيته، ولا ضمانة له من الوقوع في فخاخ الفوضوية والعدمية والعبثية والسفسطة = إلا بالاستمساك بالفطرة،والانطلاق من مقتضياتها، وأن المرء متى ما تنازل عن ذلك وقع في مشکلات معرفية وخلقية هائلة، بما يمهد الطريق الموت الإنسان؛ فنيتشه حين أعلن عن موت الإله، فإنه إنما كان يعلن في الحقيقة موت الإنسان.
حكمــــــة
ويقول ابن تيمية أيضا: ليس في الرسل من قال أول ما دعا قومه: «إنكم مأمورون بطلب معرفة الخالق ؛ فانظروا واستدلوا حتى تعرفوه». فلم يكلفوا أولا بنفس المعرفة، ولا بالأدلة الموصلة إلى المعرفة ؛ إذ كانت قلوبهم تعرفه وتقر به، وكل مولود يولد على الفطرة، لكن عرض للفطرة ما غيرها، والإنسان إذا ذُكِّر ذكرَ ما في فطرته، ولهذا قال الله في خطابه لموسى: فقولا له قولا ليّنا لعله يتذكر.
ما في فطرته من العلم الذي به يعرف ربه، ويعرف إنعامه عليه، وإحسانه إليه، وافتقاره إليه ؛ فذلك يدعوه إلى الإيمان.
حكمــــــة
يقول ابن تيمية رحمه الله: وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنیفا، ونحو ذلك؛ فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده؛ فإن الله تعالى يقول: والله أخرجكم بن بطون تهتم لا تعلمون شاه، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام لمعرفته ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض.
حكمــــــة
قلتُ: وكلامه هذا يدلُّنا ضرورةً للتَّشكيك في نظريَّته؛ إذ كيف لطارحٍ نظرية علميَّة -بزعمه- وهو شاكٌّ في عقلهِ !
12_وفي ضوء ما سبق ندرك أحد المفارقات الطريفة في العقلية الإلحادية، فأشهر الأدوات الإلحادية لبث الإلحاد ونشره (کسؤال الشر والعدل الإلهي، أو تشويه الإيمان الشرور مورست باسمه) تبدو أدوات بلا معنى في مشهد لا يكون فيه الإله موجودا، إذ الخير والشر لا وجود له إلا في ضوء وجود الله، فالملحد في الحقيقة عاج عن إقامة بنيان التنكر لوجود الله إلا بالاعتراف بوجوده، وهذه مفارقة عميقة بل تناقض مؤلم
مأزق التُّنكر الإلحادي لفلسفية النَّظرية الأخلاقيَّة المطلقة
وفي حوار آخر يقول دوكنز: (لا أستطيع في النهاية أن أجادل
فکریا ضد شخص فعل فعلا أعتقد أنه شنيع، أظن أنني في النهاية سأقول له: طيب، في هذا المجتمع لن تستطيع الفرار بهذا الصنيع»، وسأتصل بالشرطة. أدرك أن مثل هذا الجواب ضعيف، وقد قل بأني لا أشعر بأني مجهز بأدوات إنتاج حجج للجانب الأخلاقي على النحو الذي أستطيعه في مجال علوم الكون أو البيولوجيا، لكنني لا زلت أعتقد بأنها قضية منفصلة عن الإيمان بالحقائق الكونية)
بل ذهب في ذات الحوار إلى مسألة أبعد من هذا، فقد سئل السؤال التالي: (في النهاية، اعتقاد أن الاغتصاب خطأ = أمر اعتباطي تماما، كواقع أنا تطورنا بخمسة أصابع بدل ستة؟) فقال مجيبا بشكل واضح تماما: (نعم، تستطيع قول ذلك).
حكمــــــة
فأكثر الدلائل القرآنية التي تساق للبرهنة على وجوده تعالى، إنما سيقت لأجل إثبات قضية أوسع ؛ کوحدانيته - سبحانه - في الربوبية والألوهية، والآية تدل على مسألة إثبات الوجود من جهة التضمن ضرورة، فإذا كانت الآية قد سيقت للبرهنة على وحدانية الله تعالی مثلا، وحكاية شيء من کمالاته جل وعلا = فهي تتضمن البرهنة على الوجود، بل برهنتها على ذلك جارية بطريق الأولى، كما هو بين.
حكمــــــة
صلة الموجودات بالمعرفة والإدراك البشري يكون على ثلاثة مستويات:
الأول: موجودات يمكن تحصيل المعرفة بها عن طريق الحس المباشر. [المحسوسات]
الثاني: موجودات غیر واقعة تحت الحس المباشر، مع إمكان العلم بها عن طريق آثارها فيكون للعقل تعلق بإدراكها ويكون تحصيل العلم بها مركبا من الحس والعقل. [المعقولات]
الثالث: موجودات غیر واقعة تحت الحس المباشر، وليس للعقل مدخل في معرفتها لا عن طريق أثر تلك الموجودات ولا بقياسها على موجود آخر، فهذه الموجودات إن لم يردنا من جهة الخبر الصادق ما يكشف عن وجودها، فليس ثمة سبيل إلى إدراك هذا الوجود أو العلم به. [السَّمعيَّات]
من أقوى الأدلة على نظريَّة الانفجار الكوني عند الملاحدة
جاء جورج جامو (George Gamow) ليفترض سنة 1946م أنه مع تمدد الكون، وهبوط درجة الحرارة، نجحت الفوتونات في التحرر من المادة، وهو ما شكل إشعاعا افترض جامو وجوده، وأنه لا زال يتردد في الكون. وهو ما تم اكتشافه صدفة على يد الباحثين: أرنو بنزیاس (Arno Penzias)، وروبرت ویلسون (Robert Wilson)، والذي بات يعرف ب(إشعاع الخلفية الكونية الفائقة الصغر) (Cosmic microwave background radiation)، والذي شكل واحدا من أقوى الأدلة لما بات يعرف بنظرية الانفجار الكوني العظيم؛ حيث كشف هذا الإشعاع عن وجود درجة حرارة فوق المعتاد فيما بين المجرات، وأن الفضاء هناك ليس مطلق البرودة، بل يقدر بدرجة حرارة تصل إلى نحو 3 درجات وفق معیار کلفن، وكأن هذا الإشعاع هو الصدى الحراري للانفجار الكبير
إنكارُ مبدأ السَّببيَّة نوعٌ من السَّفسطة تفضي إلى امتناع تحصيل المعارف.
يقول ابن رشد: والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراکه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وصناعة المنطق تضع وضعا أن هاهنا أسبابا ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها؛ فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورافع له، فإنه يلزم ألا يكون هاهنا شيء معلوم أصلا علما حقيقيا، بل إن كان فمظنون! ولا يكون هاهنا برهان ولا حد أصلا، وترتفع المحمولات الذاتية التي منها تأتلف البراهين، ومن يضع أنه ولا علم واحد ضروري، يلزمه ألا يكون قوله هذا ضروريا !.
حكمــــــة
يقول ابن تيمية: ولهذا اتفق العقلاء على أن كل شبهة تعرض لا يمكن إزالتها بالبرهان والنظر والاستدلال، وإنما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية، وكان ممن يمكنه أن ينظر فيها نظرا يفيده العلم بغيرها، فمن لم يكن عنده مقدمات علمية أو لم يكن قادرا على النظر، لم تمکن مخاطبته بالنظر والاستدلال.
وإذا تبين هذا فالوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تزال بالبرهان، بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه، وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه، كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية.
وهذا يزول بالاستعاذة بالله، فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات المضلة والشهوات المغوية، ولهذا أمر العبد أن يستهدي ربه في كل صلاة فيقول: اهدنا الصرط المستقيم
حكمــــــة
ثم إن قيمة الأشياء لا تقاس بأحجامها المادية، فمع الاعتراف بضآلة حجم الإنسان مقارنة بهذا الكون المهيب، إلا أن حجمه المعنوي يربو عليها، وما وهبه الله له من الإحسان والكرامة لا يمنع من أن يكون هذا الكون بما فيه مخلوقا لأجله، وما أحسن قول الشاعر:
وتحسب أنَّك جرمٌ صغيرٌ
وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ
حكمــــــة
قول الشيخ إبراهيم السَّكران -فرج الله عنه-:
الحقيقة أن هذه الظاهرة تستحق الرصد والتحليل، وسأحاول أن أقدم تفسيرا لها، ففي تقديري أن هؤلاء الشباب العربي قرؤوا للمفكرين العرب الذين درسوا الفلسفة في الغرب، ولم يقرؤوا لمختصي العلوم الطبيعية من العرب، فنقلهم المفكرون العرب أصحاب التكوين الفلسفي إلى التراث الفلسفي الغربي، وصوروا لهم أن التقدم المادي الغربي كله نتيجة للفلسفة الغربية، وهذا التصوير نتيجة طبيعية لكون هؤلاء المفكرين العرب يسوقون بضاعتهم، ولذلك وجدنا شبابا عربيا يتخرج من كليات الطب والهندسة والعلوم ثم يصرف وقت فراغه في قراءة التراث الفلسفي الغربي (القرون ۱۷ - ۱۸ - ۱۹)، بدلا من أن ينشر الثقافة العلمية الحديثة والمعاصرة في بلده !
ولذلك يمكن القول أن الشباب الذين طلقوا القراءة في العلوم الشرعية، وانصرفوا للقراءة في التراث الفلسفي الغربي؛ أنهم انتقلوا من (تراث) إلى (تراث آخر) فقط، وهم يتخيلون أنهم انتقلوا من الماضي للحداثة !