تصنيف الناس بين الظن واليقين - 1
ليكن في سيرتك وسريرتك من النقاء ، والصفاء ، والشفقة على الخلق ، ما يحملك على استيعاب الآخرين ، وكظم الغيظ ، والإعراض عن عرض من وقع فيك ، ولا تشغل نفسك بذكره ، واستعمل : " العزلة الشعورية " .
فهذا غاية في نبل النفس ، وصفاء المعدن ، وخلق المسلم .
وأنت بهذا كأنما تُسف الظالم المل .
لا يثنك " الإرجــاف " عن موقفك الحق ، وأنت داع إلى الله على بصيرة فالثبات الثبات متوكلاً على مولاك - والله يتولى الصالحين - قال تعالى : (( فلعلك تارك بعض مايوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل )) [ هود : 12 ] .
لا تبتئس بما يقولون ، ولا تحزن بما يفعلون ، وخذ بوصية الله سبحانه لعبده ونبيه نوح - عليه السلام - (( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون )) [ هود : 36 ] .
ومن بعد أوصى بها يوسف - عليه السلام - أخاه : (( قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون ))[ يوسف: 69 ].
قالوا : ألا ترى إلى علي بن أبي طالب ، أنه هلك فيه فتيان : مُحب أفرط ، ومبغض أفرط وهذه صفة أهل النباهة ، ومن بلغ في الدين والفضل الغاية والله أعلم .
عن الحافظ ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - : (( قال أبو عمر : الذين رووا عن أبي حنيفة ، ووثقوه ، وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه .
والذين تكلموا فيه من أهل الحديث ، أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي ، والقياس وكان يقال : يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه .
استمسك بما أنت عليه من الحق المبين من أنوار الوحيين الشريفين وسُـلوك جادة السلف الصالحين ، ولا يحركك تهيج المرجفين ، وتباين أقوالهم فيك عن موقعك فتضل .
نُقل عن سيد العباد بعد الصحابة أويس القرني أنه قال : " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقاً ، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا ، ويجدون في ذلك أعواناً من الفاسقين ، حتى - والله - لقد رموني بالعظائم ، وايم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه " .
من كانت وقيعته ظلماً فيمن عظم شأنه في المسلمين بحق ، فينبغي تغليظ عقوبة الواقع ، إضافة إلى الحجر على لسانه ، ولهذا نظائر في الشريعة ، كوقوع الظلم في الأشهر الأربعة الحرم ، والرفث والفسوق والجدال في الحج ، وتغليظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام ، وفي البلد الحرام ، وفي ذوي الرحم ، كما هو مذهب الشافعي ، فهذه وأمثالها محرمات على كل مسلم في كل زمان ومكان ، لكن لما عظم الجرم بتعدد جهات الانتهاك ، عظم الإثم ، والجزاء .
ولمثل هؤلاء - كما قال عبد الله بن المبارك - رحمه الله تعالى - : ( تقشــر العصـي ) .
أنشـد ابن الشجـري :
إذا نهي السفـيه جرى إليـه
وخالف والسفـيه إلى خـلاف
وهذا يعاني : " أزمة في الضمير " و " ذبحة في الصدر " ، إذ تمكن منه الداء ، وللميؤس أحكام بينها الفقهاء ، نعوذ بالله من الشقاء .
وما بقي لمن أبى إلا الحجر على لسانه لصالح الديانة .
قال الطحاوي - رحمه الله تعالى - في بيان معتقد أهل السنة في ذلك :
(( وعلماء السلف من السابقين ، ومن بعدهم من التابعين - أهل الخير والأثر ، أهل الفقه والنظر - لايذكرون إلا بالجميل ، ومن ذكرهم بسوء فهـو على غير سبيل ))
عن عمر - رضي الله عنه قال - :
(( لا يعجبنكم طنطة الرجل ، ولكن من أدى الأمانة ، وكف عن أعراض الناس فهو الرجل )) .
لما أكثر الحطيئة: جرول بن أوس العبسي من هجاء الزبرقان بن بدر التميمي - رضي الله عنه - فشكاه إلى عمر - رضي الله عنه - فسجنه عمر بالمدينة ، فاستعطفه بأبياته المشهورة ، فأخرجه ، ونهاه عن هجاء الناس ، فقال : إذاً تموت عيالي جوعاً ........ فاشترى عمر - رضي الله عنه - منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم .
كانت العرب في جاهليتها تعاقب الشاعر الهجاء بشد لسانه بنسعة - سير من جلد مفتول - أو يشترون منه لسانه بأن يفعلوا به خيراً ، فينطلق لسانه بشكرهم ، فكأنما ربط لسانه بنسعة .
قال أبي حازم :
" العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة ، وإذا لقي من هو مثله ذاكره ، وإذا لقي من هو دونه لم يزه عليه حتى كان هذا الزمان ، فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى يرى الناس أنه ليس به حاجه إليه ، ولا يذاكر من هو مثله ، ويزهى على من هو دونه ، فهلك الناس " .
قال ابن عبدالبر – رحمه الله تعالى – بأسانيده في : (( جامعه )) عن ابن عباس – ر ضي الله عنهما – ومالك بن دينار ، وابن حازم – رحمهم الله تعالى – ومنها :
" خذوا العلم حيث وجدتم ، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض ، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة " .
قال ابن القيم : ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام ، والظلم ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، ومن النظر المحرم ، وغير ذلك .
ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ، حتى نرى الرجل يشار إليه بالدين ، والزهد ، والعبادة ، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالا ، وينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ، بين المشرق والمغرب .
ظاهرة التصنيف تسري بدون مقومات مقبولة شرعا ، فهي مبنية على دعوى مجردة من الدليل ، وإذا كانت كذلك بطل الادعاء ، واضمحلت الدعوى ، وأصبحت غير مسموعة شرعا ، وآلت حال المدعي إلى مدعى عليه تقام الدعوى بما كذب وافترى .
قال الحافظ ابن عساكر – رحمه الله تعالى - :
" واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته ، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته ، أن لحوم العلماء – رحمة الله عليهم – مسمومة ، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ؛ لأن الوقيعة فيهم مرتع وخيم ، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم .
قال الدورقي – رحمه الله تعالى -:
" من سمعته يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهمه على الإسلام " .
قال أبو زرعة الرازي – رحمه الله تعالى :
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن رسول الله حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة " .
الكفار تكلموا طعنا في راوية الإسلام أبي هريرة- رضي الله عنه-دون غيره من الصحابة-رضي الله عنهم-؛ لأنه أكثرهم رواية, فإذا استسهل الطعن فيه, تبعه من دونه رواية.
لهذا فقد أطبق أهل الملة الإسلامية , على أن الطعن في واحد من الصحابة - رضي الله عنهم - : زندقة مكشوفة .
كم أورثت هذه التهم الباطلة من أذى للمكلوم بها من خفقة في الصدر , ودمعة في العين , وزفرات تظلم يرتجف منها بين يدي ربه في جوف الليل , لهجا بكشفها مادّاً يديه إلى مغيث المظلومين , كاسر الظالمين .
الظالم يغط في نومه , وسهام المظلومين تتقاذفه من كل جانب , عسى أن تصيب منه مقتلا . فيا لله : " ما أعظم الفرق بين من نام وأعين الناس ساهرة تدعو له , وبين من نام وأعين الناس تدعو عليه .
لما جمع الله شمل المسلمين أعلنها النبي في حجة الوداع , فقال في خطبته الجامعة على مسمع يزيد عن مائة ألف نفس من المسلمين :
" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت " .
إذا علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما صح عنه :" من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه : أضمن له الجنة".علمت أن هذه (( الضمانة)) لا تخبر إلا على أمر عظيم .
كم من كلام أوجب ردة فقتلا, أو أوجب قذفا فجلدا, أو أوجب كفارات أو نزعت بسببه حقوق فردت مظالم إلى أهلها . أو إقرار أوجب بمفرده حكما , ولذا قالوا : (( إقرار المرء على نفسه أقوى البينات )) .
لو نظرت إلى (( الكلام )) وما بني عليه من أحكام لوجدت من ذلك عجبا في : الطهارة , والصلوات , وسائر أركان الإسلام , والجهاد , و البيوع , والنكاح , والطلاق , والجنايات , والحدود , والقضاء , .. بل أفردت أبواب في الفقهيات كلها لما تلفظ به هذه الأداة : (( اللسان )) :
في أبواب : القذف , والردة , والأيمان , والنذور , والشهادات , والإقرار .
إن جارحة اللسان الناطق بالكلام المتواطأ عليه , أساس في الحياة والتعايش دينا ودنيا , فبكلمة التوحيد يدخل المرء في ملة الإسلام , وبنقضها يخرج منها , وبين ذلك مراحل انتظمت أبواب الشريعة .