11. فوائد من كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي
قيل في منثور الحكم: من أكثر المشورة لم يعدم عند الصواب مادحا، وعند الخطأ عاذرا، وإن كان الخطأ من الجماعة بعيدا. فإذا استشار الجماعة فقد اختلف أهل الرأي في اجتماعهم عليه وانفراد كل واحد منهم به.
قالت الفرس في حكمها: أضعف الحيلة خير من أقوى الشدة. وأقل التأني خير من أكثر العجلة، والدولة رسول القضاء المبرم. وإذا استبد الملك برأيه عميت عليه المراشد. وإذا ظفر برأي من خامل لا يراه للرأي أهلا ولا للمشورة مستوجبا اغتنمه عفوا فإن الرأي كالضالة تؤخذ أين وجدت، ولا يهون لمهانة صاحبه فيطرح، فإن الدرة لا يضعها مهانة غائصها، والضالة لا تترك لذلة واجدها. وليس يراد الرأي لمكان المشير به فيراعى قدره وإنما يراد لانتفاع المستشير.
قال لقمان لابنه: يا بني إذا استشهدت فاشهد، وإذا استعنت فأعن، وإذا استشرت فلا تعجل حتى تنظر}.
قال بعض الحكماء لابنه: يا بني كن جوادا بالمال في موضع الحق، ضنينا بالاسرار عن جميع الخلق. فإن أحمد جود المرء الانفاق في وجه البر، والبخل بمكتوم السر.
قال أنوشروان: من حصن سره فله بتحصينه خصلتان: الظفر بحاجته، والسلامة من السطوات. وإظهار الرجل سر غيره أقبح من إظهاره سر نفسه؛ لأنه يبوء بإحدى وصمتين: الخيانة إن كان مؤتمنا، أو النميمة إن كان مستودعا. فأما الضرر فربما استويا فيه وتفاضلا. وكلاهما مذموم، وهو فيهما ملوم.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : القلوب أوعية الاسرار، والشفاء أقفالها والالسن مفاتيحها، فليحفظ كل امرئ مفتاح سره. ومن صفات أمين السر أن يكون ذا عقل صاد، ودين حاجز، ونصح مبذول، وود موفور، وكتوما بالطبع. فإن هذه الامور تمنع من الاذاعة، وتوجب حفظ الامانة، فمن كملت فيه فهو عنقاء مغرب.
قيل في منثور الحكم: قلوب العقلاء حصون الاسرار. وليحذر صاحب السر أن يودع سره من يتطلع إليه، ويؤثر الوقوف عليه، فإن طالب الوديعة خائن.
قال صالح بن عبد القدوس: لا تدع سرا إلى طالبه منك فالطالب للسر مذيع وليحذر كثرة المستودعين لسره فإن كثرتهم سبب الاذاعة، وطريق إلى الاشاعة؛ لأمرين: أحدهما أن اجتماع هذه الشروط في العدد الكثير معوز، ولا بد إذا كثروا من أن يكون فيهم من أخل ببعضها.
قيل : فلا تنطق بسرك كل سر إذا ما جاوز الاثنين فاشي ثم لو سلم من إذاعتهم لم يسلم من إدلالهم واستطالتهم، فإن لمن ظفر بسر من فرط الادلال وكثرة الاستطالة، ما إن لم يحجزه عنه عقل ولم يكفه عنه فضل، كان أشد من ذل الرق وخضوع العبد.
حكي أن رجلا أسر إلى صديق له حديثا ثم قال: أفهمت ؟ قال: بل جهلت. قال: أحفظت ؟ قال: بل نسيت.
اعلم أن للمزاح إزاحة عن الحقوق، ومخرجا إلى القطيعة والعقوق، يصم المازح ويؤذي الممازح. فوصمة المازح أن يذهب عنه الهيبة والبهاء، ويجري عليه الغوغاء والسفهاء. وأما أذية الممازح فلأنه معقوق بقول كريه وفعل ممض إن أمسك عنه أحزن قلبه، وإن قابل عليه جانب أدبه. فحق على العاقل أن يتقيه وينزه نفسه عن وصمة مساوئه.
ذكر خالد بن صفوان المزاح فقال: يصك أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الخردل، ويفرغ عليه أحر من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك.
قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك فإن الافراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء، وإن التقصير فيه يفض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين.
قال بعض الحكماء: إذا مازحت عدوك ظهرت له عيوبك. وأما الضحك فإن اعتياده شاغل عن النظر في الامور المهمة، مذهل عن الفكر في النوائب الملمة. وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وصم به خطر ولا مقدار.
روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها} إن الصغيرة الضحك.
قيل في منثور الحكم: ضحكة المؤمن غفلة من قلبه. والقول في الضحك كالقول في المزاح إن تجافاه الانسان نفر عنه وأوحش منه، وإن ألفه كانت حاله ما وصفنا. فليكن بدل الضحك عند الايناس تبسما.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: التبسم دعابة. وهذا أبلغ في الايناس من الضحك الذي هو قد يكون استهزاء وتعجبا. وليس ينكر منه المرة النادرة لطارئ استغفل النفس عن دفعه.
اعلم أنه ليس شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيب غراب يرد قضاء أو يدفع مقدورا فقد جهل.
حكى عكرمة قال: كنا جلوسا عند ابن عباس رضي الله عنهما، فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم: خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر.
قيل في منثور الحكم: الخير في ترك الطيرة. وليقل إن عارضه في الطيرة ريب، أو خامره فيها وهم .
اعلم أن من شواهد الفضل ودلائل الكرم المروءة التي هي حلية النفوس وزينة الهمم. فالمروءة مراعاة الاحوال التي تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق.
قال بعض البلغاء: من شرائط المروءة أن يتعفف عن الحرام، ويتصلف عن الاثام، وينصف في الحكم، ويكف عن الظلم، ولا يطمع فيما لا يستحق، ولا يستطيل على من لا يسترق، ولا يعين قويا على ضعيف، ولا يؤثر دنيا على شريف، ولا يسر ما يعقبه الوزر والاثم، ولا يفعل ما يقبح الذكر والاسم.
سئل بعض الحكماء عن الفرق بين العقل والمروءة فقال: العقل يأمرك بالانفع، والمروءة تأمرك بالاجمل. ولن تجد الاخلاق على ما وصفنا من حد المروءة منطبعة، ولا عن المراعاة مستغنية، وإنما المراعاة هي المروءة لا ما انطبعت عليه من فضائل الاخلاق؛ لأن غرور الهوى ونازع الشهوة يصرفان النفس أن تركب الافضل من خلائقها، والاجمل من طرائقها، وإن سلمت منها، وبعيد أن تسلم الا لمن استكمل شرف الاخلاق طبعا، واستغنى عن تهذيبها تكلفا وتطبعا.
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تصغرن همتكم فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم.
قال بعض الادباء: من ترك التماس المعالي بسوء الرجاء لم ينل جسيما. وأما شرف النفس: فإن به يكون قبول التأديب، واستقرار التقويم والتهذيب، لأن النفس ربما جمحت عن الافضل وهي به عارفة، ونفرت عن التأديب وهي له مستحسنة؛ لأنها عليه غير مطبوعة، وله غير ملائمة، فتصير منه أنفر، ولضده الملائم آثر.
قيل: ما أكثر من يعرف الحق ولا يطيعه. وإذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة، وفي الفضائل راغبة، فإذا مازحها صارت طبعا ملائما فنما واستقر. فأما من مني بعلو الهمة وسلب شرف النفس فقد صار عرضة لأمر أعوزته آلته، وأفسدته جهالته، فصار كضرير يروم تعلم الكتابة، وأخرس يريد الخطبة، فلا يزيده الاجتهاد الا عجزا والطلب الا عوزا.
قيل لبعض الحكماء: من أسوأ الناس حالا ؟ قال: من بعدت همته، واتسعت أمنيته، وقصرت آلته، وقلت مقدرته.
قال بعض الحكماء: نكح العجز التواني فخرج منهما الندامة، ونكح الشؤم الكسل فخرج منهما الحرمان.
قال الحصين بن المنذر الرقاشي: إن المروءة ليس يدركها امرؤ ورث المكارم عن أب فأضاعها أمرته نفس بالدناءة والخنا ونهته عن سبل العلا فأطاعها فإذا أصاب من المكارم خلة يبني الكريم بها المكارم باعها واعلم أن حقوق المروءة أكثر من أن تحصى، وأخفى من أن تظهر؛ لأن منها ما يقوم في الوهم حسا، ومنها ما يقتضيه شاهد الحال حدسا، ومنها ما يظهر بالفعل ويخفى بالتغافل. فلذلك أعوز استيفاء شروطها إلى جمل يتنبه الفاضل عليها بيقظته، ويستدل العاقل عليها بفطرته، وإن كان جميع ما تضمنه كتابنا هذا من حقوق المروءة وشروطها.
حكي أن معاوية رضي الله عنه سأل عمر عن المروءة فقال: تقوى الله تعالى وصلة الرحم. وسأل المغيرة فقال: هي العفة عما حرم الله تعالى والحرفة فيما أحل الله تعالى. وسأل يزيد: فقال هي الصبر على البلوى، والشكر على النعمى، والعفو عند القدرة، فقال معاوية: أنت مني حقا.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أمر الله تعالى بشيء الا وأعان عليه، ولا نهى عن شيء الا وأغنى عنه.
قال ابن المقفع: الاستطالة لسان الجهال. وكف النفس عن هذه الحال بما يصدها من الزواجر أسلم وهو بذوي المروءة أجمل.
قال خالد الربعي: قرأت في بعض الكتب السالفة أن مما تعجل عقوبة ولا تؤخر الامانة تخان والاحسان يكفر والرحم تقطع والبغي على الناس.
قال بعض الحكماء: من التمس أربعا بأربع التمس ما لا يكون، ومن التمس الجزاء بالرياء التمس ما لا يكون، ومن التمس مودة الناس بالغلظة التمس ما لا يكون، ومن التمس وفاء الاخوان بغير وفاء التمس ما لا يكون، ومن التمس العلم براحة الجسد التمس ما لا يكون.
قال حسان بن أبي سنان: ما وجدت شيئا هو أهون من الورع. قيل له: وكيف ؟ قال: إذا ارتبت بشيء تركته. والداعي إلى هذه الحال شيئان: الاسترسال، وحسن الظن. والمانع منهما شيئان: الحياء، والحذر. وربما انتفت الريبة بحسن الثقة وارتفعت التهمة بطول الخبرة.
قال محمد بن علي رضي الله عنه: الكمال في ثلاثة: العفة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة.
قال بعض الحكماء لابنه: يا بني لا تكن على أحد كلا فإنك تزداد ذلا، واضرب في الارض عودا وبدءا، ولا تأسف لمال كان فذهب، ولا تعجز عن الطلب لوصب ولا نصب.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لابنه الحسن في وصيته له: يا بني إن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا، فإن اليسير من الله تعالى أكرم وأعظم من الكثير من غيره، وإن كان كل منه كثيرا.
قال زياد لبعض الدهاقين: ما المروءة فيكم ؟ قال: اجتناب الريب فإنه لا ينبل مريب، وإصلاح الرجل ماله فإنه من مروءته وقيامه بحوائجه وحوائج أهله فإنه لا ينبل من احتاج إلى أهله ولا من احتاج أهله إلى غيره .
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: من أراد البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء وليخفف الرداء. قيل: وما في خفة الرداء من البقاء ؟ قال: قلة الدين. فإن أعوزه ذلك الا استسماحا فهو الرق المذل. ولذلك قيل: لا مروءة لمقل.
وصى عبد الله بن الاهتم ابنه فقال: يا بني لا تطلب الحوائج من غير أهلها، ولا تطلبها في غير حينها، ولا تطلب ما لست له مستحقا فإنك إن فعلت ذلك كنت حقيقا بالحرمان.
قال بعض الحكماء: اصنع الخير عند إمكانه يبقى لك حمده عند زواله، وأحسن والدولة لك يحسن لك، والدولة عليك، واجعل زمان رخائك عدة لزمان بلائك.
قيل للحكيم اليوناني: من أضيق الناس طريقا وأقلهم صديقا ؟ قال: من عاشر الناس بعبوس وجهه واستطال عليهم بنفسه.
سئل الاحنف بن قيس عن المروءة فقال: صدق اللسان ومؤاساة الاخوان وذكر الله تعالى في كل مكان.
قال بعض حكماء الفرس: صفة الصديق أن يبذل لك ماله عند الحاجة، ونفسه عند النكبة، ويحفظك عند المغيب.
رأى بعض الحكماء رجلين يصطحبان لا يفترقان فسأل عنهما فقيل: هما صديقان. فقال: ما بال أحدهما فقير والاخر غني.