5. فوائد من كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي
حكمــــــة
قال محمود الوراق: لا تتبع الدنيا وأيامها ذما وإن دارت بك الدائره من شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الاخره فإذا قد لزم بما بيناه النظر في أمور الدنيا فوجب ستر أحوالها، والكشف عن جهة انتظامها واختلالها، لنعلم أسباب صلاحها وفسادها، ومواد عمرانها وخرابها، لتنتفي عن أهلها شبه الحيرة، وتنجلي لهم أسباب الخيرة، فيقصدوا الامور من أبوابها، ويعتمدوا صلاح قواعدها وأسبابها.
حكمــــــة
اعلم أن صلاح الدنيا معتبر من وجهين: أولهما ما ينتظم به أمور جملتها. والثاني: ما يصلح به حال كل واحد من أهلها. فهما شيئان لا صلاح لأحدهما الا بصاحبه؛ لأن من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلال أمورها لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها، ويقدح فيه اختلالها؛ لأن منها ما يستمد، ولها يستعد. ومن فسدت حاله مع صلاح الدنيا وانتظام أمورها لم يجد لصلاحها لذة، ولا لاستقامتها أثرا؛ لأن الانسان دنيا نفسه، فليس يرى الصلاح الا إذا صلحت له ولا يجد الفساد الا إذا فسدت عليه؛ لأن نفسه أخص وحاله أمس. فصار نظره إلى ما يخصه مصروفا، وفكره على ما يمسه موقوفا.
حكمــــــة
اعلم أن الدنيا لم تكن قط لجميع أهلها مسعدة، ولا عن كافة ذويها معرضة؛ لأن إعراضها عن جميعهم عطب وإسعادها لكافتهم فساد لائتلافهم بالاختلاف والتباين، واتفاقهم بالمساعدة والتعاون. فإذا تساوى جميعهم لم يجد أحدهم إلى الاستعانة بغيره سبيلا، وبهم من الحاجة والعجز ما وصفنا، فيذهبوا ضيعة ويهلكوا عجزا. وإذا تباينوا واختلفوا صاروا مؤتلفين بالمعونة متواصلين بالحاجة؛ لأن ذا الحاجة وصول، والمحتاج إليه موصول.
حكمــــــة
قال الله تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق}. غير أن الدنيا إذا صلحت كان إسعادها موفورا، وإعراضها ميسورا. الا أنها إذا منحت هنت وأودعت وإذا استردت رفقت وأبقت. وإذا فسدت الدنيا كان إسعادها مكرا، وإعراضها غدرا؛ لأنها إذا منحت كدت وأتعبت، وإذا استردت استأصلت وأجحفت. ومع هذا فصلاح الدنيا مصلح لسائر أهلها لوفور أماناتهم، وظهور دياناتهم. وفسادها مفسد لسائر أهلها لقلة أماناتهم، وضعف دياناتهم.
حكمــــــة
إن الذي يلزم سلطان الامة من أمورها سبعة أشياء: أحدها: حفظ الدين من تبديل فيه، والحث على العمل به من غير إهمال له. والثاني: حراسة البيضة والذب عن الامة من عدو في الدين أو باغي نفس أو مال. والثالث: عمارة البلدان باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها. والرابع: تقدير ما يتولاه من الاموال بسنن الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها. والخامس: معاناة المظالم والاحكام بالتسوية بين أهلها واعتماد النصفة في فصلها. والسادس: إقامة الحدود على مستحقها من غير تجاوز فيها، ولا تقصير عنها. والسابع: اختيار خلفائه في الامور أن يكونوا من أهل الكفاية فيها، والامانة عليها.
حكمــــــة
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إن الله تعالى إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه، فاعرف منزلتك من الله تعالى بمنزلتك من الناس، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك. فكان هذا موضحا لمعنى ما ذكرنا. وأصل هذا أن خشية الله تبعث على طاعته في خلقه، وطاعته في خلقه تبعث على محبته، فلذلك كانت محبتهم دليلا على خيره وخشيته، وبغضهم دليلا على شره وقلة مراقبته.
حكمــــــة
روى عبد الرحمن بن محمد قال: أصدق طلحة بن عبد الله أم كلثوم بنت أبي بكر مائة ألف درهم، وهو أول من أصدق هذا القدر، فمر بالمال على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا؟ قالوا: صداق أم كلثوم ابنة أبي بكر فقال: أدخلوه بيت المال. فأخبر بذلك طلحة وقيل له: كلمه في ذلك. فقال: ما أنا بفاعل، لئن كان عمر يرى له فيه حقا لا يرده لكلامي، وإن كان لا يرى فيه حقا ليردنه. قال: فلما أصبح عمر أمر بالمال فدفع إلى أم كلثوم.
حكمــــــة
قال بعض البلغاء: إن العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق، ونصبه للحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه، واستعن على العدل بخلتين: قلة الطمع، وكثرة الورع. فإذا كان العدل من إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها الا به، ولا صلاح فيها الا معه، وجب أن نبدأ بعدل الانسان في نفسه، ثم بعدله في غيره. فأما عدله في نفسه فيكون بحملها على المصالح، وكفها عن القبائح، ثم بالوقوف في أحوالها على أعدل الامرين من تجاوز أو تقصير. فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم. ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها فهو على غيره أجور.
حكمــــــة
قالت الحكماء: الفضائل هيئات متوسطة بين خلتين ناقصتين، وأفعال الخير تتوسط بين رذيلتين. فالحكمة واسطة بين الشر والجهالة. والشجاعة واسطة بين التقحم والجبن. والعفة واسطة بين الشره وضعف الشهوة. والسكينة واسطة بين السخط وضعف الغضب. والغيرة واسطة بين الحسد وسوء العادة. والظرف واسطة بين الخلاعة والعرامة. والتواضع واسطة بين الكبر ودناءة النفس. والسخاء واسطة بين التبذير والتقتير. والحلم واسطة بين إفراط الغضب وعدمه. والمودة واسطة بين الخلابة وحسن الخلق. والحياء واسطة بين القحة والحقد. والوقار واسطة بين الهزء والسخافة. وإذا كان ما خرج عن الاعتدال إلى ما ليس باعتدال خروجا عن العدل إلى ما ليس بعدل، فالاولى اجتنابه والوقوف مع الاوسط.
حكمــــــة
قال محمد بن علي رضي الله عنه إن الله تعالى رضي الاباء للأبناء فحذرهم فتنتهم ولم يوصهم بهم، ولم يرض الابناء للآباء فأوصاهم بهم. وإن شر الابناء من دعاه التقصير إلى العقوق، وشر الاباء من دعاه البر إلى الافراط. والامهات أكثر إشفاقا وأوفر حبا لما باشرن من الولادة وعانين من التربية فإنهن أرق قلوبا وألين نفوسا. وبحسب ذلك وجب أن يكون التعطف عليهن أوفر جزاء لفعلهن، وكفاء لحقهن، وإن كان الله تعالى قد أشرك بينهما في البر وجمع بينهما في الوصية، فقال تعالى: {ووصينا الانسان بوالديه حسنا}.
حكمــــــة
الْمُؤَاخَاةُ فِي النَّاسِ قَدْ تَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أُخُوَّةٌ مُكْتَسَبَةٌ بِالاتِّفَاقِ الْجَارِي مَجْرَى الاضْطِرَارِ. وَالثَّانِيَةُ: مُكْتَسَبَةٌ بِالْقَصْدِ وَالاخْتِيَارِ. فَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ بِالاتِّفَاقِ فَهِيَ أَوْكَدُ حَالا؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَنْ أَسْبَابٍ تَعُودُ إلَيْهَا. وَالْمُكْتَسَبَةُ بِالْقَصْدِ تُعْقَدُ لَهَا أَسْبَابٌ تَنْقَادُ إلَيْهَا. وَمَا كَانَ جَارِيًا بِالطَّبْعِ فَهُوَ أَلْزَمُ مِمَّا هُوَ حَادِثٌ بِالْقَصْدِ.
حكمــــــة
قَالَ الْكِنْدِيُّ: الصَّدِيقُ إنْسَانٌ هُوَ أَنْتَ الا أَنَّهُ غَيْرُك. وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه حِينَ أَقْطَعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْضًا وَكَتَبَ لَهُ بِهَا كِتَابًا، وَأَشْهَدَ فِيهِ نَاسًا مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه فَأَتَى طَلْحَةُ بِكِتَابِهِ إلَى عُمَرَ لِيَخْتِمَهُ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ طَلْحَةُ مُغْضَبًا إلَى أَبِي بَكْرٍ، رضي الله عنه وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ عُمَرُ؟ فَقَالَ: بَلْ عُمَرُ، لَكِنَّهُ أَنَا.
حكمــــــة
قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ رحمه الله: وَاعْلَمْ بِأَنَّ النَّاسَ مِنْ طِينَةٍ يَصْدُقُ فِي الثَّلْبِ لَهَا الثَّالِبُ لَوْلاَ عِلاَجُ النَّاسِ أَخْلاَقَهُمْ إذَنْ لَفَاحَ الْحَمَأُ اللاَزِبُ وَأَمَّا الْفَاقَةُ فَهِيَ أَنْ يَفْتَقِرَ الانْسَانُ؛ لِوَحْشَةِ انْفِرَادِهِ وَمَهَانَةِ وَحْدَتِهِ، إلَى اصْطِفَاءِ مَنْ يَأْنِسُ بِمُوَاخَاتِهِ وَيَثِقُ بِنُصْرَتِهِ وَمُوَالاتِهِ.
حكمــــــة
قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: مَنْ لَمْ يَرْغَبْ بِثَلاَثٍ بُلِيَ بِسِتٍّ: مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الاخْوَانِ بُلِيَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْخِذْلاَنِ، وَمَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي السَّلاَمَةِ بُلِيَ بِالشَّدَائِدِ وَالامْتِهَانِ، وَمِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْمَعْرُوفِ بُلِيَ بِالنَّدَامَةِ وَالْخُسْرَانِ.