1. فوائد من كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي
حكمــــــة
اعلم أن لكل فضيلة أسا ولكل أدب ينبوعا، وأس الفضائل وينبوع الاداب هو العقل الذي جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمادا، فأوجب الدين بكماله وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، وألف به بين خلقه مع اختلاف هممهم ومآربهم، وتباين أغراضهم ومقاصدهم، وجعل ما تعبدهم به قسمين: قسما وجب بالعقل فوكده الشرع، وقسما جاز في العقل فأوجبه الشرع فكان العقل لهما عمادا.
حكمــــــة
وصف بعض الادباء العاقل بما فيه من الفضائل، والاحمق بما فيه من الرذائل، فقال: العاقل إذا والى بذل في المودة نصره، وإذا عادى رفع عن الظلم قدره، فيسعد مواليه بعقله، ويعتصم معاديه بعدله. إن أحسن إلى أحد ترك المطالبة بالشكر، وإن أساء إليه مسيء سبب له أسباب العذر، أو منحه الصفح والعفو. والاحمق ضال مضل إن أونس تكبر، وإن أوحش تكدر، وإن استنطق تخلف، وإن ترك تكلف. مجالسته مهنة، ومعاتبته محنة، ومحاورته تعر، وموالاته تضر، ومقاربته عمى، ومقارنته شقا.
حكمــــــة
كانت ملوك الفرس إذا غضبت على عاقل حبسته مع جاهل. والاحمق يسيء إلى غيره ويظن أنه قد أحسن إليه فيطالبه بالشكر، ويحسن إليه فيظن أنه قد أساء فيطالبه بالوتر. فمساوئ الاحمق لا تنقضي وعيوبه لا تتناهى ولا يقف النظر منها إلى غاية الا لوحت ما وراءها مما هو أدنى منها، وأردى، وأمر، وأدهى. فما أكثر العبر لمن نظر، وأنفعها لمن اعتبر.
حكمــــــة
قال بعض البلغاء: إن الدنيا ربما أقبلت على الجاهل بالاتفاق، وأدبرت عن العاقل بالاستحقاق. فإن أتتك منها سهمة مع جهل، أو فاتتك منها بغية مع عقل، فلا يحملنك ذلك على الرغبة في الجهل، والزهد في العقل. فدولة الجاهل من الممكنات، ودولة العاقل من الواجبات. وليس من أمكنه شيء من ذاته، كمن استوجبه بآلته، وأدواته. وبعد فدولة الجاهل كالغريب الذي يحن إلى النقلة، ودولة العاقل كالنسيب الذي يحن إلى الوصلة. فلا يفرح المرء بحالة جليلة نالها بغير عقل، ومنزلة رفيعة حلها بغير فضل. فإن الجهل ينزله منها، ويزيله عنها، ويحطه إلى رتبته، ويرده إلى قيمته، بعد أن تظهر عيوبه، وتكثر ذنوبه، ويصير مادحه هاجيا، ووليه معاديا.
حكمــــــة
قال علي بن عبد الله الجعفري: سمعتني امرأة بالطواف، وأنا أنشد: أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدين فقالت: هما ضرتان فذر أيهما شئت وخذ الاخرى. فأما فرق ما بين الهوى والشهوة مع اجتماعهما في العلة والمعلول، واتفاقهما في الدلالة والمدلول، فهو أن الهوى مختص بالاراء والاعتقادات، والشهوة مختصة بنيل اللذة. فصارت الشهوة من نتائج الهوى وهي أخص، والهوى أصل هو أعم.
حكمــــــة
قال محمد بن كناسة: ما من روى أدبا فلم يعمل به ويكف عن زيغ الهوى بأديب حتى يكون بما تعلم عاملا من صالح فيكون غير معيب ولقلما تغني إصابة قائل أفعاله أفعال غير مصيب وقال آخر: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى بالقول منك ويقبل التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم.
حكمــــــة
حكى أبو فروة أن طارقا صاحب شرطة خالد القسري مر بابن شبرمة وطارق في موكبه فقال ابن شبرمة: أراها وإن كانت تخب كأنها سحابة صيف عن قريب تقشع اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فاستعمل ابن شبرمة بعد ذلك على القضاء فقال له ابنه أبو بكر: أتذكر قولك يوم كذا إذ مر بك طارق في موكبه؟ فقال: يا بني إنهم يجدون مثل أبيك ولا يجد أبوك مثلهم. إن أباك أكل من حلاوتهم، فحط في أهوائهم. أما ترى هذا الدين الفاضل كيف عوجل بالتقريع وقوبل بالتوبيخ من أخص ذويه، ولعله من أبر بنيه. فكيف بنا ونحن أطلق منه عنانا، وأقلق منه جنانا. إذا رمقتنا أعين المتتبعين، وتناولتنا ألسن المتعتبين. هل نجد غير توفيق الله تعالى ملاذا، وسوى عصمته معاذا؟
حكمــــــة
اعلم أن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب؛ لأن شرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمي على طالبه. قال الله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} فمنع المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم. وقال تعالى: {وما يعقلها الا العالمون} فنفى أن يكون غير العالم يعقل عنه أمرا، أو يفهم منه زجرا.
حكمــــــة
قال علي رضي الله تعالى عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن. فأخذه الخليل فنظمه شعرا فقال: لا يكون العلي مثل الدني لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي قيمة المرء قدر ما يحسن المرء قضاء من الامام علي وليس يجهل فضل العلم الا أهل الجهل؛ لأن فضل العلم إنما يعرف بالعلم. وهذا أبلغ في فضله؛ لأن فضله لا يعلم الا به. فلما عدم الجهال العلم الذي به يتوصلون إلى فضل العلم جهلوا فضله، واسترذلوا أهله، وتوهموا أن ما تميل إليه نفوسهم من الاموال المقتناة، والطرف المشتهاة، أولى أن يكون إقبالهم عليها، وأحرى أن يكون اشتغالهم بها.
حكمــــــة
قال يحيى بن خالد لابنه: عليك بكل نوع من العلم فخذ منه، فإن المرء عدو ما جهل، وأنا أكره أن تكون عدو شيء من العلم، وأنشد: تفنن وخذ من كل علم فإنما يفوق امرؤ في كل فن له علم فأنت عدو للذي أنت جاهل به ولعلم أنت تتقنه سلم وإذا صان ذو العلم نفسه حق صيانتها، ولازم فعل ما يلزمها أمن تعيير الموالي وتنقيص المعادي، وجمع إلى فضيلة العلم جميل الصيانة وعز النزاهة فصار بالمنزلة التي يستحقها بفضائله.
حكمــــــة
قال بعض البلغاء: إن من الشريعة أن تجل أهل الشريعة، ومن الصنيعة أن ترب حسن الصنيعة. فينبغي لمن استدل بفطرته على استحسان الفضائل، واستقباح الرذائل، أن ينفي عن نفسه رذائل الجهل بفضائل العلم وغفلة الاهمال باستيقاظ المعاناة، ويرغب في العلم رغبة متحقق لفضائله واثق بمنافعه، ولا يلهيه عن طلبه كثرة مال وجده ولا نفوذ أمر وعلو منزلة. فإن من نفذ أمره فهو إلى العلم أحوج، ومن علت منزلته فهو بالعلم أحق.
حكمــــــة
ربما امتنع الانسان من طلب العلم لكبر سنه واستحيائه من تقصيره في صغره أن يتعلم في كبره، فرضي بالجهل أن يكون موسوما به وآثره على العلم أن يصير مبتدئا به. وهذا من خدع الجهل وغرور الكسل؛ لأن العلم إذا كان فضيلة فرغبة ذوي الاسنان فيه أولى. والابتداء بالفضيلة فضيلة. ولان يكون شيخا متعلما أولى من أن يكون شيخا جاهلا.
حكمــــــة
ذكر أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه فقال: يا عم ما عندك فيما يقول هؤلاء: فقال: يا أمير المؤمنين شغلونا في الصغر واشتغلنا في الكبر. فقال: لم لا نتعلمه اليوم؟ قال: أو يحسن بمثلي طلب العلم؟ قال: نعم. والله لان تموت طالبا للعلم خير من أن تعيش قانعا بالجهل. قال: وإلى متى يحسن بي طلب العلم؟ قال: ما حسنت بك الحياة؛ ولأن الصغير أعذر وإن لم يكن في الجهل عذر؛ لأنه لم تطل به مدة التفريط ولا استمرت عليه أيام الاهمال.
حكمــــــة
قيل في منثور الحكم: جهل الصغير معذور، وعلمه محقور، فأما الكبير فالجهل به أقبح، ونقصه عليه أفضح؛ لأن علو السن إذا لم يكسبه فضلا ولم يفده علما وكانت أيامه في الجهل ماضية، ومن الفضل خالية، كان الصغير أفضل منه؛ لأن الرجاء له أكثر، والامل فيه أظهر، وحسبك نقصا في رجل يكون الصغير المساوي له في الجهل أفضل منه.
حكمــــــة
قال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه: أريد أن أتعلم العلم، وأخاف أن أضيعه. فقال: كفى بترك العلم إضاعة. وليس، وإن تفاضلت الاذهان وتفاوتت الفطن، ينبغي لمن قل منها حظه أن ييأس من نيل القليل وإدراك اليسير الذي يخرج به من حد الجهالة إلى أدنى مراتب التخصيص. فإن الماء مع لينه يؤثر في صم الصخور فكيف لا يؤثر العلم الزكي في نفس راغب شهي، وطالب خلي، لا سيما وطالب العلم معان.
حكمــــــة
ربما منع ذا السفاهة من طلب العلم أن يصور في نفسه حرفة أهله وتضايق الامور مع الاشتغال به حتى يسمهم بالادبار ويتوسمهم بالحرمان، فإن رأى محبرة تطير منها وإن رأى كتابا أعرض عنه، وإن رأى متحليا بالعلم هرب منه كأنه لم ير عالما مقبلا وجاهلا مدبرا ولقد رأيت من هذه الطبقة جماعة ذوي منازل، وأحوال كنت أخفي عنهم ما يصحبني من محبرة وكتاب لئلا أكون عندهم مستثقلا، وإن كان البعد عنهم مؤنسا ومصلحا، والقرب منهم موحشا ومفسدا.
حكمــــــة
قيل لبزرجمهر: ما لكم لا تعاتبون الجهال؟ فقال: إنا لا نكلف العمي أن يبصروا، ولا الصم أن يسمعوا وهذه الطائفة التي تنفر من العلم هذا النفور، وتعاند أهله هذا العناد، ترى العقل بهذه المثابة وتنفر من العقلاء هذا النفور، وتعتقد أن العاقل محارف، وأن الاحمق محظوظ. وناهيك بضلال من هذا اعتقاده في العقل والعلم هل يكون لخير أهلا، أو لفضيلة موضعا.
حكمــــــة
قيل: العلماء غرباء لكثرة الجهال. فإذا ظهرت سمة فضلهم وصادف ذلك قلة حظ بعضهم تنوهوا بالتمييز واشتهروا بالتعيين، فصاروا مقصودين بإشارة المتعنتين، ملحوظين بإيماء الشامتين. والجهال والحمقى لما كثروا ولم يتخصصوا انصرفت عنهم النفوس فلم يلحظ المحروم منهم بطرف شامت، ولا قصد المجدود منهم بإشارة عائب. فلذلك ظن الجاهل المرزوق أن الفقر والضيق مختص بالعلم، والعقل دون الجهل والحمق ولو فتشت أحوال العلماء والعقلاء، مع قلتهم، لوجدت الاقبال في أكثرهم. ولو اختبرت أمور الجهال والحمقى، مع كثرتهم، لوجدت الحرمان في أكثرهم. وإنما يصير ذو الحال الواسعة منهم ملحوظا مشتهرا؛ لأن حظه عجيب وإقباله مستغربكما أن حرمان العاقل العالم غريب وإقلاله عجيب.
حكمــــــة
قال بعض الادباء: من لم يفد بالعلم مالا كسب به جمالا، وأنشد بعض أهل الادب لابن طباطبا: حسود مريض القلب يخفي أنينه ويضحى كئيب البال عندي حزينه يلوم علي أن رحت للعلم طالبا أجمع من عند الرواة فنونه فأعرف أبكار الكلام وعونه وأحفظ مما أستفيد عيونه ويزعم أن العلم لا يكسب الغنى ويحسن بالجهل الذميم ظنونه فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي فقيمة كل الناس ما يحسنونه وأنا أستعيذ بالله من خدع الجهل المذلة، وبوادر الحمق المضلة، وأسأله السعادة بعقل رادع يستقيم به من زل، وعلم نافع يستهدي به من ضل.
حكمــــــة
قال بعض العلماء لصاحبه: لا يمنعنك حذر المراء من حسن المناظرة، فإن المماري هو الذي لا يريد أن يتعلم منه أحد ولا يرجو أن يتعلم من أحد. واعلم أن لكل مطلوب باعثا. والباعث على المطلوب شيئان: رغبة أو رهبة، فليكن طالب العلم راغبا راهبا. أما الرغبة ففي ثواب الله تعالى لطالبي مرضاته، وحافظي مفترضاته. وأما الرهبة فمن عقاب الله تعالى لتاركي أوامره، ومهملي زواجره. فإذا اجتمعت الرغبة والرهبة أديا إلى كنه العلم وحقيقة الزهد؛ لأن الرغبة أقوى الباعثين على العلم، والرهبة أقوى السببين في الزهد.
حكمــــــة
اعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها. فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها لتفضي إلى حقائقها. ولا يطلب الاخر قبل الاول، ولا الحقيقة قبل المدخل. فلا يدرك الاخر ولا يعرف الحقيقة؛ لأن البناء على غير أس لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى. ولذلك أسباب فاسدة ودواع واهية.
حكمــــــة
قد يصح قيام الاوائل بأنفسها فيصير طلب الاواخر بترك الاوائل تركا للأوائل والاواخر فإذن ليس يعرى من لوم وإن كان تارك الاخر ألوم. ومنها: أن يحب الاشتهار بالعلم إما لتكسب أو لتجمل فيقصد من العلم ما اشتهر من مسائل الجدل وطريق النظر. ويتعاطى علم ما اختلف فيه دون ما اتفق عليه؛ ليناظر على الخلاف وهو لا يعرف الوفاق، ويجادل الخصوم وهو لا يعرف مذهبا مخصوصا. ولقد رأيت من هذه الطبقة عددا قد تحققوا بالعلم تحقق المتكلفين، واشتهروا به اشتهار المتبحرين. إذا أخذوا في مناظرة الخصوم ظهر كلامهم، وإذا سئلوا عن واضح مذهبهم ضلت أفهامهم، حتى إنهم ليخبطون في الجواب خبط عشواء فلا يظهر لهم صواب، ولا يتقرر لهم جواب. ولا يرون ذلك نقصا إذا نمقوا في المجالس كلاما موصوفا، ولفقوا على المخالف حجابا مألوفا. وقد جهلوا من المذاهب ما يعلم المبتدئ ويتداوله الناشئ.
حكمــــــة
من أسباب التقصير أيضا أن يغفل عن التعلم في الصغر، ثم يشتغل به في الكبر فيستحي أن يبتدئ بما يبتدئ الصغير، ويستنكف أن يساويه الحدث الغرير، فيبدأ بأواخر العلوم، وأطرافها، ويهتم بحواشيها، وأكنافها؛ ليتقدم على الصغير المبتدي، ويساوي الكبير المنتهي. وهذا ممن رضي بخداع نفسه، وقنع بمداهنة حسه؛ لأن معقوله إن أحس ومعقول كل ذي حس يشهد بفساد هذا التصور، وينطق باختلال هذا التخيل؛ لأنه شيء لا يقوم في وهم. وجهل ما يبتدئ به المتعلم أقبح من جهل ما ينتهي إليه العالم.