1. فوائد من كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي
اعلم أن لكل فضيلة أسا ولكل أدب ينبوعا، وأس الفضائل وينبوع الاداب هو العقل الذي جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمادا، فأوجب الدين بكماله وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، وألف به بين خلقه مع اختلاف هممهم ومآربهم، وتباين أغراضهم ومقاصدهم، وجعل ما تعبدهم به قسمين: قسما وجب بالعقل فوكده الشرع، وقسما جاز في العقل فأوجبه الشرع فكان العقل لهما عمادا .
قال بعض الحكماء: العقل أفضل مرجو، والجهل أنكى عدو . قال بعض الادباء: صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله. وقال بعض البلغاء: خير المواهب العقل، وشر المصائب الجهل .
إن العقل هو العلم بالمدركات الضرورية , وذلك نوعان: أحدهما ما وقع عن درك الحواس , والثاني: ما كان مبتدئا في النفوس .
قال بعض البلغاء: دولة الجاهل عبرة العاقل. قال أنوشروان لبزرجمهر: أي الاشياء خير للمرء ؟ قال: عقل يعيش به. قال: فإن لم يكن ؟ قال: فإخوان يسترون عيبه. قال: فإن لم يكن ؟ قال: فمال يتحبب به إلى الناس. قال: فإن لم يكن ؟ قال: فعي صامت. قال: فإن لم يكن ؟ قال: فموت جارف.
قال سابور بن أردشير: العقل نوعان: أحدهما مطبوع، والاخر مسموع. ولا يصلح واحد منهما الا بصاحبه .
وصف بعض الادباء العاقل بما فيه من الفضائل، والاحمق بما فيه من الرذائل، فقال: العاقل إذا والى بذل في المودة نصره، وإذا عادى رفع عن الظلم قدره، فيسعد مواليه بعقله، ويعتصم معاديه بعدله. إن أحسن إلى أحد ترك المطالبة بالشكر، وإن أساء إليه مسيء سبب له أسباب العذر، أو منحه الصفح والعفو. والاحمق ضال مضل إن أونس تكبر، وإن أوحش تكدر، وإن استنطق تخلف، وإن ترك تكلف. مجالسته مهنة، ومعاتبته محنة، ومحاورته تعر، وموالاته تضر، ومقاربته عمى، ومقارنته شقا .
كانت ملوك الفرس إذا غضبت على عاقل حبسته مع جاهل. والاحمق يسيء إلى غيره ويظن أنه قد أحسن إليه فيطالبه بالشكر، ويحسن إليه فيظن أنه قد أساء فيطالبه بالوتر. فمساوئ الاحمق لا تنقضي وعيوبه لا تتناهى ولا يقف النظر منها إلى غاية الا لوحت ما وراءها مما هو أدنى منها، وأردى، وأمر، وأدهى. فما أكثر العبر لمن نظر، وأنفعها لمن اعتبر .
قال بعض البلغاء: إن الدنيا ربما أقبلت على الجاهل بالاتفاق، وأدبرت عن العاقل بالاستحقاق. فإن أتتك منها سهمة مع جهل، أو فاتتك منها بغية مع عقل، فلا يحملنك ذلك على الرغبة في الجهل، والزهد في العقل. فدولة الجاهل من الممكنات، ودولة العاقل من الواجبات. وليس من أمكنه شيء من ذاته، كمن استوجبه بآلته، وأدواته. وبعد فدولة الجاهل كالغريب الذي يحن إلى النقلة، ودولة العاقل كالنسيب الذي يحن إلى الوصلة. فلا يفرح المرء بحالة جليلة نالها بغير عقل، ومنزلة رفيعة حلها بغير فضل. فإن الجهل ينزله منها، ويزيله عنها، ويحطه إلى رتبته، ويرده إلى قيمته، بعد أن تظهر عيوبه، وتكثر ذنوبه، ويصير مادحه هاجيا، ووليه معاديا .
اعلم أنه بحسب ما ينشر من فضائل العاقل، كذلك يظهر من رذائل الجاهل، حتى يصير مثلا في الغابرين، وحديثا في الاخرين، مع هتكه في عصره، وقبح ذكره في دهره .
استعمل معاوية رجلا من كلب فذكر المجوس يوما عنده فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم، والله لو أعطيت عشرة الاف درهم ما نكحت أمي. فبلغ ذلك معاوية فقال: - قبحه الله - أترونه لو زادوه فعل ؟ وعزله وولى الربيع العامري .
الهوى هو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الاخلاق قبائحها، ويظهر من الافعال فضائحها ، ويجعل ستر المروءة مهتوكا، ومدخل الشر مسلوكا .
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : الهوى إله يعبد من دون الله. ثم تلا: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} .
قال عكرمة في قوله تعالى: {ولكنكم فتنتم أنفسكم} يعني بالشهوات {وتربصتم} يعني بالتوبة {وارتبتم} يعني في أمر الله {وغرتكم الاماني} يعني بالتسويف {حتى جاء أمر الله} يعني الموت {وغركم بالله الغرور} يعني الشيطان .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طلاعة تنزع إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مري، وإن الباطل خفيف وبي، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخاف عليكم اثنين: اتباع الهوى وطول الامل. فإن اتباع الهوى يصد عن الحق وطول الامل ينسي الاخرة .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أخاف عليكم اثنين: اتباع الهوى وطول الامل. فإن اتباع الهوى يصد عن الحق وطول الامل ينسي الاخرة .
قيل في منثور الحكم: من أطاع هواه، أعطى عدوه مناه. وقال بعض الحكماء: العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع.
قال محمد بن بشير: كل يرى أن الشباب له في كل مبلغ لذة عذرا ولذلك قال بعض الحكماء: الهوى ملك غشوم، ومتسلط ظلوم. وقال بعض الادباء: الهوى عسوف، والعدل مألوف .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إياكم وتحكيم الشهوات على أنفسكم فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم، فإن لم ترها تنقاد بالتحذير والارهاب، فسوفها بالتأميل والارغاب، فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلت لهما وانقادت .
قال ابن السماك: كن لهواك مسوفا، ولعقلك مسعفا، وانظر إلى ما تسوء عاقبته فوطن نفسك على مجانبته فإن ترك النفس وما تهوى داؤها، وترك ما تهوى دواؤها، فاصبر على الدواء، كما تخاف من الداء .
قال الحسن البصري: أفضل الجهاد جهاد الهوى. وقال بعض الحكماء: أعز العز الامتناع من ملك الهوى.
قال بعض البلغاء: خير الناس من أخرج الشهوة من قلبه، وعصى هواه في طاعة ربه. وقال بعض الادباء: من أمات شهوته، فقد أحيا مروءته.
قال بعض العلماء: ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة، وركب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما؛ فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته على عقله فهو شر من البهائم.
قيل لبعض الحكماء: من أشجع الناس، وأحراهم بالظفر في مجاهدته ؟ قال: من جاهد الهوى طاعة لربه، واحترس في مجاهدته من ورود خواطر الهوى على قلبه
قال سليمان بن وهب: الهوى أمنع، والرأي أنفع . قيل في المثل : العقل وزير ناصح، والهوى وكيل فاضح .
قال بعض الحكماء: نظر الجاهل بعينه وناظره، ونظر العاقل بقلبه وخاطره. ثم يتهم نفسه في صواب ما أحبت وتحسين ما اشتهت؛ ليصح له الصواب ويتبين له الحق، فإن الحق أثقل محملا، وأصعب مركبا فإن أشكل عليه أمران اجتنب أحبهما إليه، وترك أسهلهما عليه. فإن النفس عن الحق أنفر، وللهوى آثر .
قال العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه : إذا اشتبه عليك أمران فدع أحبهما إليك، وخذ أثقلهما عليك. وعلة هذا القول هو أن الثقيل يبطئ النفس عن التسرع إليه فيتضح مع الابطاء وتطاول الزمان صواب ما استعجم، وظهور ما استبهم .
قال علي بن أبي طالب: من تفكر أبصر والمحبوب أسهل شيء تسرع النفس إليه، وتعجل بالاقدام عليه، فيقصر الزمان عن تصفحه ويفوت استدراكه لتقصير فعله فلا ينفع التصفح بعد العمل ولا الاستبانة بعد الفوت .
وصف بعض البلغاء حال الهوى وما يقارنه من محن الدنيا فقال: الهوى مطية الفتنة، والدنيا دار المحنة، فانزل عن الهوى تسلم، واعرض عن الدنيا تغنم، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي ولا تفتنك دنياك بحسن العواري. فمدة اللهو تنقطع وعارية الدهر ترتجع، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم، وتكتسبه من المآثم .
قال علي بن عبد الله الجعفري: سمعتني امرأة بالطواف، وأنا أنشد: أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدين فقالت: هما ضرتان فذر أيهما شئت وخذ الاخرى. فأما فرق ما بين الهوى والشهوة مع اجتماعهما في العلة والمعلول، واتفاقهما في الدلالة والمدلول، فهو أن الهوى مختص بالاراء والاعتقادات، والشهوة مختصة بنيل اللذة. فصارت الشهوة من نتائج الهوى وهي أخص، والهوى أصل هو أعم .
قال محمد بن كناسة: ما من روى أدبا فلم يعمل به ويكف عن زيغ الهوى بأديب حتى يكون بما تعلم عاملا من صالح فيكون غير معيب ولقلما تغني إصابة قائل أفعاله أفعال غير مصيب وقال آخر: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك تعذر إن وعظت ويقتدى بالقول منك ويقبل التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم .
حكى أبو فروة أن طارقا صاحب شرطة خالد القسري مر بابن شبرمة وطارق في موكبه فقال ابن شبرمة: أراها وإن كانت تخب كأنها سحابة صيف عن قريب تقشع اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فاستعمل ابن شبرمة بعد ذلك على القضاء فقال له ابنه أبو بكر: أتذكر قولك يوم كذا إذ مر بك طارق في موكبه ؟ فقال: يا بني إنهم يجدون مثل أبيك ولا يجد أبوك مثلهم. إن أباك أكل من حلاوتهم، فحط في أهوائهم. أما ترى هذا الدين الفاضل كيف عوجل بالتقريع وقوبل بالتوبيخ من أخص ذويه، ولعله من أبر بنيه. فكيف بنا ونحن أطلق منه عنانا، وأقلق منه جنانا. إذا رمقتنا أعين المتتبعين، وتناولتنا ألسن المتعتبين. هل نجد غير توفيق الله تعالى ملاذا، وسوى عصمته معاذا ؟
اعلم أن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب؛ لأن شرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمي على طالبه. قال الله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} فمنع المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم. وقال تعالى: {وما يعقلها الا العالمون} فنفى أن يكون غير العالم يعقل عنه أمرا، أو يفهم منه زجرا .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الناس أبناء ما يحسنون. قال مصعب بن الزبير: تعلم العلم فإن يكن لك مال كان لك جمالا وإن لم يكن لك مال كان لك مالا.
قال عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني تعلموا العلم فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطا سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم .
قال بعض الحكماء: العلم شرف لا قدر له، والادب مال لا خوف عليه . قال بعض الادباء: العلم أفضل خلف، والعمل به أكمل شرف .
قال بعض البلغاء: تعلم العلم فإنه يقومك ويسددك صغيرا، ويقدمك ويسودك كبيرا، ويصلح زيفك وفاسدك، ويرغم عدوك وحاسدك، ويقوم عوجك وميلك، ويصحح همتك، وأملك.
قال علي رضي الله تعالى عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن. فأخذه الخليل فنظمه شعرا فقال: لا يكون العلي مثل الدني لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي قيمة المرء قدر ما يحسن المرء قضاء من الامام علي وليس يجهل فضل العلم الا أهل الجهل؛ لأن فضل العلم إنما يعرف بالعلم. وهذا أبلغ في فضله؛ لأن فضله لا يعلم الا به. فلما عدم الجهال العلم الذي به يتوصلون إلى فضل العلم جهلوا فضله، واسترذلوا أهله، وتوهموا أن ما تميل إليه نفوسهم من الاموال المقتناة، والطرف المشتهاة، أولى أن يكون إقبالهم عليها، وأحرى أن يكون اشتغالهم بها.
قد قال ابن المعتز في منثور الحكم: العالم يعرف الجاهل؛ لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم؛ لأنه لم يكن عالما. وهذا صحيح، ولأجله انصرفوا عن العلم، وأهله انصراف الزاهدين، وانحرفوا عنه وعنهم انحراف المعاندين؛ لأن من جهل شيئا عاداه .
قيل لبزرجمهر: العلم أفضل أم المال ؟ فقال: بل العلم. قيل: فما بالنا نرى العلماء على أبواب الاغنياء ولا نكاد نرى الاغنياء على أبواب العلماء ؟ فقال: ذلك لمعرفة العلماء بمنفعة المال وجهل الاغنياء لفضل العلم .
وقف بعض المتعلمين بباب عالم ثم نادى: تصدقوا علينا بما لا يتعب ضرسا، ولا يسقم نفسا. فأخرج له طعاما ونفقة. فقال: فاقتي إلى كلامكم، أشد من فاقتي إلى طعامكم، إني طالب هدى لا سائل ندى. فأذن له العالم، وأفاده من كل ما سأل عنه فخرج جذلا فرحا، وهو يقول: علم أوضح لبسا، خير من مال أغنى نفسا .
اعلم أن كل العلوم شريفة، ولكل علم منها فضيلة، والاحاطة بجميعها محال. قيل لبعض الحكماء: من يعرف كل العلوم ؟ فقال: كل الناس .
قال بعض العلماء : لو كنا نطلب العلم لنبلغ غايته كنا قد بدأنا العلم بالنقيصة، ولكنا نطلبه لننقص في كل يوم من الجهل ونزداد في كل يوم من العلم .
قال بعض العلماء: المتعمق في العلم كالسابح في البحر ليس يرى أرضا، ولا يعرف طولا ولا عرضا .
قيل لحماد الراوية: أما تشبع من هذه العلوم ؟ فقال: استفرغنا فيها المجهود، فلم نبلغ منها المحدود، فنحن كما قال الشاعر: إذا قطعنا علما بدا علم .
إذا لم يكن إلى معرفة جميع العلوم سبيل وجب صرف الاهتمام إلى معرفة أهمها والعناية بأولاها، وأفضلها. وأولى العلوم، وأفضلها علم الدين؛ لأن الناس بمعرفته يرشدون، وبجهله يضلون. إذ لا يصح أداء عبادة جهل فاعلها صفات أدائها، ولم يعلم شروط إجزائها.
قيل في منثور الحكم: إن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير . قيل لعيسى ابن مريم عليه السلام من أشد الناس فتنة ؟ قال: زلة العالم إذا زل زل بزلته عالم كثير .
قال يحيى بن خالد لابنه: عليك بكل نوع من العلم فخذ منه، فإن المرء عدو ما جهل، وأنا أكره أن تكون عدو شيء من العلم، وأنشد: تفنن وخذ من كل علم فإنما يفوق امرؤ في كل فن له علم فأنت عدو للذي أنت جاهل به ولعلم أنت تتقنه سلم وإذا صان ذو العلم نفسه حق صيانتها، ولازم فعل ما يلزمها أمن تعيير الموالي وتنقيص المعادي، وجمع إلى فضيلة العلم جميل الصيانة وعز النزاهة فصار بالمنزلة التي يستحقها بفضائله.
قال بعض البلغاء: إن من الشريعة أن تجل أهل الشريعة، ومن الصنيعة أن ترب حسن الصنيعة. فينبغي لمن استدل بفطرته على استحسان الفضائل، واستقباح الرذائل، أن ينفي عن نفسه رذائل الجهل بفضائل العلم وغفلة الاهمال باستيقاظ المعاناة، ويرغب في العلم رغبة متحقق لفضائله واثق بمنافعه، ولا يلهيه عن طلبه كثرة مال وجده ولا نفوذ أمر وعلو منزلة. فإن من نفذ أمره فهو إلى العلم أحوج، ومن علت منزلته فهو بالعلم أحق.
قال بعض البلغاء: العلم عصمة الملوك ؛ لأنه يمنعهم من الظلم ، ويردهم إلى الحلم، ويصدهم عن الاذية، ويعطفهم على الرعية, فمن حقهم أن يعرفوا حقه، ويستبطنوا أهله. فأما المال فظل زائل وعارية مسترجعة وليس في كثرته فضيلة، ولو كانت فيه فضيلة لخص الله به من اصطفاه لرسالته، واجتباه لنبوته .
قد كان أكثر أنبياء الله تعالى مع ما خصهم الله به من كرامته وفضلهم على سائر خلقه، فقراء لا يجدون بلغة ولا يقدرون على شيء حتى صاروا في الفقر مثلا، فقال البحتري: فقر كفقر الانبياء وغربة وصبابة ليس البلاء بواحد ولعدم الفضيلة في المال منحه الله الكافر وحرمه المؤمن .
بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فضل ما بين العلم والمال فقال: العلم خير من المال. العلم يحرسك، وأنت تحرس المال. العلم حاكم والمال محكوم عليه. مات خزان الاموال وبقي خزان العلم أعيانهم مفقودة، وأشخاصهم في القلوب موجودة .
سئل بعض العلماء : أيما أفضل المال أم العلم ؟ فقال: الجواب عن هذا أيما أفضل المال أم العقل .
ربما امتنع الانسان من طلب العلم لكبر سنه واستحيائه من تقصيره في صغره أن يتعلم في كبره، فرضي بالجهل أن يكون موسوما به وآثره على العلم أن يصير مبتدئا به. وهذا من خدع الجهل وغرور الكسل؛ لأن العلم إذا كان فضيلة فرغبة ذوي الاسنان فيه أولى. والابتداء بالفضيلة فضيلة. ولان يكون شيخا متعلما أولى من أن يكون شيخا جاهلا .
حكي أن بعض الحكماء رأى شيخا كبيرا يحب النظر في العلم ويستحي فقال له: يا هذا أتستحي أن تكون في آخر عمرك أفضل مما كنت في أوله.
ذكر أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه فقال: يا عم ما عندك فيما يقول هؤلاء: فقال: يا أمير المؤمنين شغلونا في الصغر واشتغلنا في الكبر. فقال: لم لا نتعلمه اليوم ؟ قال: أو يحسن بمثلي طلب العلم ؟ قال: نعم. والله لان تموت طالبا للعلم خير من أن تعيش قانعا بالجهل. قال: وإلى متى يحسن بي طلب العلم ؟ قال: ما حسنت بك الحياة؛ ولأن الصغير أعذر وإن لم يكن في الجهل عذر؛ لأنه لم تطل به مدة التفريط ولا استمرت عليه أيام الاهمال .
قيل في منثور الحكم : جهل الصغير معذور، وعلمه محقور، فأما الكبير فالجهل به أقبح، ونقصه عليه أفضح؛ لأن علو السن إذا لم يكسبه فضلا ولم يفده علما وكانت أيامه في الجهل ماضية، ومن الفضل خالية، كان الصغير أفضل منه؛ لأن الرجاء له أكثر، والامل فيه أظهر، وحسبك نقصا في رجل يكون الصغير المساوي له في الجهل أفضل منه.
ربما امتنع من طلب العلم لتعذر المادة وشغله اكتسابها عن التماس العلم. وهذا، وإن كان أعذر من غيره مع أنه قل ما يكون ذلك الا عند ذي شره وعيب وشهوة مستعبدة، فينبغي أن يصرف إلى العلم حظا من زمانه. فليس كل الزمان زمان اكتساب. ولا بد للمكتسب من أوقات استراحة، وأيام عطلة .
من صرف كل نفسه إلى الكسب حتى لم يترك لها فراغا إلى غيره، فهو من عبيد الدنيا، وأسراء الحرص .
قال بعض العلماء : من أحب العلم أحاطت به فضائله . قال بعض الحكماء : من صاحب العلماء وقر ، ومن جالس السفهاء حقر .
ربما منعه من طلب العلم ما يظنه من صعوبته ، وبعد غايته، ويخشى من قلة ذهنه وبعد فطنته. وهذا الظن اعتذار ذوي النقص وخيفة أهل العجز؛ لأن الاخبار قبل الاختبار جهل، والخشية قبل الابتلاء عجز .
قال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه: أريد أن أتعلم العلم، وأخاف أن أضيعه. فقال: كفى بترك العلم إضاعة. وليس، وإن تفاضلت الاذهان وتفاوتت الفطن، ينبغي لمن قل منها حظه أن ييأس من نيل القليل وإدراك اليسير الذي يخرج به من حد الجهالة إلى أدنى مراتب التخصيص. فإن الماء مع لينه يؤثر في صم الصخور فكيف لا يؤثر العلم الزكي في نفس راغب شهي، وطالب خلي، لا سيما وطالب العلم معان .
ربما منع ذا السفاهة من طلب العلم أن يصور في نفسه حرفة أهله وتضايق الامور مع الاشتغال به حتى يسمهم بالادبار ويتوسمهم بالحرمان، فإن رأى محبرة تطير منها وإن رأى كتابا أعرض عنه، وإن رأى متحليا بالعلم هرب منه كأنه لم ير عالما مقبلا وجاهلا مدبرا ولقد رأيت من هذه الطبقة جماعة ذوي منازل، وأحوال كنت أخفي عنهم ما يصحبني من محبرة وكتاب لئلا أكون عندهم مستثقلا، وإن كان البعد عنهم مؤنسا ومصلحا، والقرب منهم موحشا ومفسدا .
قيل لبزرجمهر: ما لكم لا تعاتبون الجهال ؟ فقال: إنا لا نكلف العمي أن يبصروا، ولا الصم أن يسمعوا وهذه الطائفة التي تنفر من العلم هذا النفور، وتعاند أهله هذا العناد، ترى العقل بهذه المثابة وتنفر من العقلاء هذا النفور، وتعتقد أن العاقل محارف، وأن الاحمق محظوظ. وناهيك بضلال من هذا اعتقاده في العقل والعلم هل يكون لخير أهلا، أو لفضيلة موضعا .
قال بعض البلغاء: أخبث الناس المساوي بين المحاسن والمساوئ؛ وعلة هذا أنهم ربما رأوا عاقلا غير محظوظ، وعالما غير مرزوق، فظنوا أن العلم والعقل هما السبب في قلة حظه ورزقه. وقد انصرفت عيونهم عن حرمان أكثر النوكى وإدبار أكثر الجهال؛ لأن في العقلاء والعلماء قلة وعليهم من فضلهم سمة .
قيل: العلماء غرباء لكثرة الجهال. فإذا ظهرت سمة فضلهم وصادف ذلك قلة حظ بعضهم تنوهوا بالتمييز واشتهروا بالتعيين، فصاروا مقصودين بإشارة المتعنتين، ملحوظين بإيماء الشامتين. والجهال والحمقى لما كثروا ولم يتخصصوا انصرفت عنهم النفوس فلم يلحظ المحروم منهم بطرف شامت، ولا قصد المجدود منهم بإشارة عائب. فلذلك ظن الجاهل المرزوق أن الفقر والضيق مختص بالعلم، والعقل دون الجهل والحمق ولو فتشت أحوال العلماء والعقلاء، مع قلتهم، لوجدت الاقبال في أكثرهم. ولو اختبرت أمور الجهال والحمقى، مع كثرتهم، لوجدت الحرمان في أكثرهم. وإنما يصير ذو الحال الواسعة منهم ملحوظا مشتهرا؛ لأن حظه عجيب وإقباله مستغربكما أن حرمان العاقل العالم غريب وإقلاله عجيب .
لم تزل الناس على سالف الدهور من ذلك متعجبين وبه معتبرين حتى قيل لبزرجمهر: ما أعجب الاشياء ؟ فقال: نجح الجاهل وإكداء العاقل. لكن الرزق بالحظ والجد، لا بالعلم والعقل، حكمة منه تعالى يدل بها على قدرته وإجراء الامور على مشيئته.
قالت الحكماء: لو جرت الاقسام على قدر العقول لم تعش البهائم . قيل في منثور الحكم: كم من ذليل أعزه علمه، ومن عزيز أذله جهله .
قال بعض الحكماء: كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحا. وقال بعض العلماء لبنيه: يا بني تعلموا العلم فإن لم تنالوا به من الدنيا حظا فلان يذم الزمان لكم أحب إلي من أن يذم الزمان بكم .
قال بعض الادباء: من لم يفد بالعلم مالا كسب به جمالا، وأنشد بعض أهل الادب لابن طباطبا: حسود مريض القلب يخفي أنينه ويضحى كئيب البال عندي حزينه يلوم علي أن رحت للعلم طالبا أجمع من عند الرواة فنونه فأعرف أبكار الكلام وعونه وأحفظ مما أستفيد عيونه ويزعم أن العلم لا يكسب الغنى ويحسن بالجهل الذميم ظنونه فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي فقيمة كل الناس ما يحسنونه وأنا أستعيذ بالله من خدع الجهل المذلة، وبوادر الحمق المضلة, وأسأله السعادة بعقل رادع يستقيم به من زل، وعلم نافع يستهدي به من ضل.
قال بعض العلماء لصاحبه: لا يمنعنك حذر المراء من حسن المناظرة، فإن المماري هو الذي لا يريد أن يتعلم منه أحد ولا يرجو أن يتعلم من أحد. واعلم أن لكل مطلوب باعثا. والباعث على المطلوب شيئان: رغبة أو رهبة، فليكن طالب العلم راغبا راهبا. أما الرغبة ففي ثواب الله تعالى لطالبي مرضاته، وحافظي مفترضاته. وأما الرهبة فمن عقاب الله تعالى لتاركي أوامره، ومهملي زواجره. فإذا اجتمعت الرغبة والرهبة أديا إلى كنه العلم وحقيقة الزهد؛ لأن الرغبة أقوى الباعثين على العلم، والرهبة أقوى السببين في الزهد .
قالت الحكماء: أصل العلم الرغبة وثمرته السعادة، وأصل الزهد الرهبة وثمرته العبادة فإذا اقترن الزهد والعلم فقد تمت السعادة وعمت الفضيلة، وإن افترقا فيا ويح مفترقين ما أضر افتراقهما، وأقبح انفرادهما .
قال مالك بن دينار : من لم يؤت من العلم ما يقمعه، فما أوتي منه لا ينفعه . قال بعض الحكماء: الفقيه بغير ورع كالسراج يضيء البيت ويحرق نفسه .
اعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها. فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها لتفضي إلى حقائقها. ولا يطلب الاخر قبل الاول، ولا الحقيقة قبل المدخل. فلا يدرك الاخر ولا يعرف الحقيقة؛ لأن البناء على غير أس لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى. ولذلك أسباب فاسدة ودواع واهية.
قد يصح قيام الاوائل بأنفسها فيصير طلب الاواخر بترك الاوائل تركا للأوائل والاواخر فإذن ليس يعرى من لوم وإن كان تارك الاخر ألوم. ومنها: أن يحب الاشتهار بالعلم إما لتكسب أو لتجمل فيقصد من العلم ما اشتهر من مسائل الجدل وطريق النظر. ويتعاطى علم ما اختلف فيه دون ما اتفق عليه؛ ليناظر على الخلاف وهو لا يعرف الوفاق، ويجادل الخصوم وهو لا يعرف مذهبا مخصوصا. ولقد رأيت من هذه الطبقة عددا قد تحققوا بالعلم تحقق المتكلفين، واشتهروا به اشتهار المتبحرين. إذا أخذوا في مناظرة الخصوم ظهر كلامهم، وإذا سئلوا عن واضح مذهبهم ضلت أفهامهم، حتى إنهم ليخبطون في الجواب خبط عشواء فلا يظهر لهم صواب، ولا يتقرر لهم جواب. ولا يرون ذلك نقصا إذا نمقوا في المجالس كلاما موصوفا، ولفقوا على المخالف حجابا مألوفا. وقد جهلوا من المذاهب ما يعلم المبتدئ ويتداوله الناشئ.
من أسباب التقصير أيضا أن يغفل عن التعلم في الصغر، ثم يشتغل به في الكبر فيستحي أن يبتدئ بما يبتدئ الصغير، ويستنكف أن يساويه الحدث الغرير، فيبدأ بأواخر العلوم، وأطرافها، ويهتم بحواشيها، وأكنافها؛ ليتقدم على الصغير المبتدي، ويساوي الكبير المنتهي. وهذا ممن رضي بخداع نفسه، وقنع بمداهنة حسه؛ لأن معقوله إن أحس ومعقول كل ذي حس يشهد بفساد هذا التصور، وينطق باختلال هذا التخيل؛ لأنه شيء لا يقوم في وهم. وجهل ما يبتدئ به المتعلم أقبح من جهل ما ينتهي إليه العالم.