5. فوائد من كتاب روضة العقلاء
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل تعاهد زيارة الإخوان، وتفقد أحوالهم؛ لأن الزائر في قصد الزيارة، يشتمل على مصادفة معنيين: أحدهما: استكمال الذخر في الآجل بفعله ذلك. وقد قال بعض القدماء: إن الرجل إذا زار أخا له في الله، لم يبق في السماء ملك إلا حياه بتحية مستأنفة، لا يحييه ملك مثله، ولم يبق شجرة من شجر الجنة إلا نادت صاحبها: ألا إن فلان بن فلان زار أخا في الله، والآخر: التلذذ بالمؤانسة بالأخ المزور، مع الانقلاب بغنيمتين معا.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الناس في الزيارة على ضربين: فمنهم من صحح الحال بينه وبين أخيه، وتعرى عن وجود الخلل، وورود البغض فيه، فإذا كان بهذا النعت، أحببت له الإكثار من الزيارة، والإفراط في الاجتماع؛ لأن الإكثار من الزيارة بين من هذا نعته، لا يورث الملالة، والإفراط في الاجتماع بين من هذه صفته، يزيد في المؤانسة، والضرب الآخر: لم يستحكم الود بينه وبين من يؤاخيه، ولا أداهما الحال إلى ارتفاع الحشمة بينهما فيما يبتذلان لمهنتيهما، فإذا كان بهذا النعت، أحببت له الإقلال من الزيارة؛ لأن الإكثار بينهم مما يؤدي إلى الملالة، وكل مبذول مملول، وكل ممنوع ملذوذ.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: شبيل بن عزرة هذا من أفاضل أهل البصرة وقرائهم، ولكنه لم يحفظ إسناد هذا الخبر؛ لأن أنس بن مالك سمع هذا الخبر من أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقصر به شبيل ولم يحفظه. فالواجب على العاقل: ترك صحبة الحمقى، ومجانبة عشرة النوكى، كما يجب عليه لزوم صحبة العاقل الأريب، وعشرة الفطن اللبيب؛ لأن العاقل وإن لم يصبك الحظ من عقله، أصابك من الاعتبار به، والأحمق إن لم يعدك حمقه، تدنست بعشرته.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: من] علامات الحمق التي يجب للعاقل تفقدها ممن خفي عليه أمره: سرعة الجواب، وترك التثبت، والإفراط في الضحك، وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار، والأحمق إذا أعرضت عنه اغتم، وإن أقبلت عليه اغتر، وإن حلمت عنه جهل عليك، وإن جهلت عليه حلم عنك، وإن أسأت إليه أحسن إليك، وإن أحسنت إليه أساء إليك، وإذا ظلمته انتصفت منه، ويظلمك إذا أنصفته.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: أظلم الظلمات الحمق، كما أن أنفذ البصائر العقل، فإذا امتحن المرء بعشرة الأحمق، كان الواجب عليه اللزوم لأخلاق نفسه، والمباينة لأخلاقه، مع الإكثار من الحمد لله على ما وهب له من الانتباه لما حرم غيره التوفيق له؛ فإن جرى الأحمق في صحبته ميدانه في عشرته، فالواجب على العاقل لزوم السكوت حينئذ في أوقاته.
حكمــــــة
عن وهب ابن منبه قال: الأحمق كالثوب الخلق، إن رفأته من جانب انخرق من جانب آخر، ومثل الفخار المكسور، لا يرقع ولا يشعب، ولا يعاد طينا. فهذا مثل الأحمق: إن صحبته عناك، وإن اعتزلته شتمك، وإن أعطاك من عليك، وإن أعطيته كفرك، وإن أسر إليك اتهمك، وإن أسررت إليه خانك، وإن كان فوقك حقرك، وإن كان دونك غمزك.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: وإن من شيم العاقل: الحلم، والصمت، والوقار، والسكينة، والوفاء، والبذل، والحكمة، والعلم، والورع، والعدل، والقوة، والحزم، والكياسة، والتمييز، والسمت، والتواضع، والعفو، والإغضاء، والتعفف، والإحسان، فإذا وفق المرء لصحبة العاقل، فليشدد يديه به، ولا يزايله على الأحوال كلها. والواجب على العاقل أن لا يصحب بحيلة من لا يستفيد منه خيرا.
حكمــــــة
قال الحسن: لا تسأل عن عمل أخيك الحسن والسيء، فإنه من التجسس. قال أبو حاتم: الواجب على العاقل لزوم السلامة، بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره، أراح بدنه ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه، هان عليه ما يرى من مثله من أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه، عمي قلبه وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: سوء الظن على ضربين: أحدهما: منهي عنه بحكم النبي صلى الله عليه وسلم. والضرب الآخر: مستحب. فأما الذي نهى عنه، فهو استعمال سوء الظن بالمسلمين كافة، على ما يقدر من ذكرنا له. وأما الذي يستحب من سوء الظن، فهو لمن بينه وبينه عداوة أو شحناء في دين أو دنيا، يخاف على نفسه مكره؛ فحينئذ يلزمه سوء الظن بمكائده ومكره؛ لئلا يصادفه على غرة بمكره فيهلكه.
حكمــــــة
عن الزبير بن موسى المخزومي قال: قالت بنت عبد الله بن مطيع بن الأسود، - وهي زوجة طلحة بن عبد الله بن عوف - لزوجها: ما رأيت أحدا قط ألأم من أصحابك، قال: مه، لا تقولي ذلك فيهم، وما رأيت من لؤمهم؟ قالت: أمرا والله بينا، قال: وما هو؟ قالت: إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت جانبوك، قال: ما زدت على أن وصفتهم بمكارم الأخلاق. قالت: وما هذا من مكارم الأخلاق؟ فقال: يأتونا في حال القوة منا عليهم، ويفارقونا في حال الضعف منا عليهم.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: ركب الله - عز وجل وعلا - في البشر الحرص والرغبة في الدنيا الفانية، لئلا تخرب، إذ هي دار الأبرار، ومكسب الأتقياء، وموضع زاد المؤمنين، واستجلاب الميرة للصالحين، ولو تعرى الناس عن الحرص فيها بطلت وخربت، فلم يجد المرء ما يستعين به على أداء فرائض الله، فضلا عن اكتساب ما يجدي عليه النفع في الآخرة نفلا.
حكمــــــة
قال أبو حاتم - رحمه الله -: أغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيرا، وأفقر الفقراء من كان الحرص عليه أميرا؛ لأن الحرص سبب لإضاعة الموجود عن مواضعه، والحرص محرمة، كما أن الجبن مقتلة؛ ولو لم يكن في الحرص خصلة تذم إلا طول المناقشة بالحساب في القيامة على ما جمع، لكان الواجب على العاقل ترك الإفراط في الحرص.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الحرص غير زائد في الرزق، وأهون ما يعاقب الحريص بحرصه؛ أن يمنع الاستمتاع بما عنده من محصوله، ويتعب في طلب ما لا يدري أيلحقه أم يحول الموت بينه وبينه؟ ولو لزم الحريص ترك الإفراط فيه، واتكل على خالق السماء، لأتحفه المولى - جل وعلا - بإدراك ما لا يسعى فيه، والظفر بما لو سعى فيه وهو حريص عسي، يتعذر عليه وجوده.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: لا حظ في الراحة لمن أطاع الحرص؛ إذ الحرص سائق البلايا، فالواجب على العاقل أن لا يكون بالمفرط في الحرص في الدنيا؛ فيكون مذموما في الدارين، بل يكون قصده لإقامة فرائض الله، ويكون لبغيته نهاية يرجع إليها؛ لأن من لم يكن لقصده نهاية، آذى نفسه وأتعب بدنه. فمن كان بهذا النعت فهو من الحرص الذي يحمد.