1. فوائد من كتاب روضة العقلاء
حكمــــــة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا». رواه مسلم قال أبو حاتم: الواجب على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها؛ فإن أهون خصال الحسد هو ترك الرضا بالقضاء، وإرادة ضد ما حكم الله - جل وعلا - لعباده، ثم انطواء الضمير على إرادة زوال النعم عن المسلم، والحاسد لا تهدأ روحه، ولا يستريح بدنه، إلا عند رؤية زوال النعمة عن أخيه، وهيهات أن يساعد القضاء، ما للحساد في الأحشاء.
حكمــــــة
عن يونس بن عبيد قال: ثلاثة كلهم قولا لا يتهم عليه، قال ابن سيرين: ما حسدت رجلا قط! إن كان رجلا من أولياء الله، فكيف أحسده على شيء من حطام الدنيا، وهو يصير إلى الجنة؟ وقال مؤرق العجلي: ما غضبت غضبا قط، فكان مني فيه ما أندم عليه إذا سكن غضبي. وقال حسان بن أبي سنان: ما شيء أهون علي من الورع إذا رابني شيء تركته.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: لا يوجد من الحسود أمان أحرز من البعد منه؛ لأنه ما دام مشرفا على ما خصصت به دونه، لم يزده ذلك إلا وحشة وسوء ظن بالله، ونماء للحسد فيه. فالعاقل يكون على إماتة الحسد بما قدر عليه، أحرص منه على تربيته، ولا يجد لإماتته دواء أنفع من البعاد، فإن الحاسد ليس يحسدك على عيب فيك، ولا على خيانة ظهرت منك، ولكن يحسدك بما ركب فيه من ضد الرضا بالقضاء.
حكمــــــة
قال ابو حاتم - رحمه الله -: الواجب على العاقل الحازم أن يوطن نفسه على تحمل مقاساة ألم الحسد فيه، وأكثر ما يوجد الحسد من الجيران والإخوان؛ إذا تعروا عن الديانة ولزوم أسباب الصيانة، ثم من الأقارب؛ إذ الأقارب في الحقيقة عقارب، إلا من عصمه الله، وجاز به عن أمثالها، ثم في أهل الصناعة الذين لم يسلكوا مسلك ذوي الحجى، ولا راموا محل أولي النحل في مجانبة الدين في الأقوال، ولزوم ضده بالآمال.
حكمــــــة
إن أبعد الناس من الدخول في دين الحق والنصيحة لأهله: جاهل ورث الضلالة عن أهله، ورأس أهل ملته، حظي فيهم بفضل الضلالة، ومعظم للدنيا، يرى بهجتها دائمة محبوبة، ويرى ما رجي من خير الآخرة قريبا، وما صرف من شرها بعيدا، ليس يعقد قلبه على الإيمان، ورجل خالط النساك وانصرف عنهم لحرصه وشرهه، ودامجهم على مكر وخديعة.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: لو لم يكن في الغضب خصلة تذم إلا إجماع الحكماء قاطبة على أن الغضبان لا رأي له، لكان الواجب عليه الاحتيال لمفارقته بكل سبب. والغضبان لا يعذره أحد في طلاق ولا عتاق. ومن الفقهاء من عذر السكران في الطلاق والعتاق. والخلق مجبولون على الغضب والحلم معا، فمن غضب وحلم في نفس الغضب، فإن ذلك ليس بمذموم، ما لم يخرجه غضبه إلى المكروه من القول والفعل، على أن مفارقته في الأحوال كلها أحمد.
حكمــــــة
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني عملا إذا أنا عملته أحبني الله، وأحبني الناس؛ فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس». رواه ابن ماجة. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم في شرح الحديث (31): وقد اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين: إحداهما: الزهد في الدنيا، وأنه مقتض لمحبة الله لعبده. والثانية: الزهد فيما أيدي الناس، وأنه مقتض لمحبة الناس.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الطمع: غدة من قلب المرء له طرفان:أحدهما: القيد في رجليه. والآخر: الطبع على لسانه. فما دامت العقدة قائمة، لا تنفك رجلاه، ولا ينطق لسانه، فإذا أخرج الطمع من قلبه، انفك القيد عن رجليه، وزال الطبع عن لسانه، فسعى إلى ما يشاء، وقال ما أحب. ودواء زوال الطمع من القلب: هو رؤية الأشياء من مكونها بدوام الخلوة، وترك الناس.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: لا يجب للعاقل أن يبذل وجهه لمن يكرم عليه قدره، ويعظم عنده خطره، فكيف بمن يهون عليه رده، ولا يكرم عليه قدره؟ وأبعد اللقاء الموت، وأشد منه الحاجة إلى الناس دون السؤال، وأشد منه التكلف بالسؤال؛ لأن السؤال إذا كان بنجاح الحاجة مقرونا، لم يخل من أن يكون فيه ذل السؤال، وإذا الحاجة لم تقض كان فيه ذلان موجودان: ذل السؤال، وذل الرد.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: لو لم يكن في السؤال خصلة تذم إلا وجود التذلل في النفس عند الاهتمام بالسؤال وإبدائه، لكان الواجب على العاقل أن لو اضطره الأمر إلى أن يستف الرمل ويمص النوى، أن لا يتعرض للسؤال أبدا، ما وجد إليه سبيلا، فأما من دفعه الوقت إلى ذلك، فسأل من يعلم أنه يقضي حاجته، أو ذا سلطان، لم يحرج في فعله ذلك، كما لم يحرج في القبول إذا أعطي من غير مسألة، ومن استغنى بالله أغناه الله، ومن تعزز به لم يفقره، كما أن من اعتز بالعبيد أذله الله.
حكمــــــة
عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». رواه البخاري (6416) فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر في هذا الخبر: أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل؛ فكأنه أمره بالقناعة باليسير من الدنيا، إذ الغريب وعابر السبيل لا يقصدان في الغيبة الإكثار من الثروة، بل القناعة إليهما أقرب من الإكثار من الدنيا.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: من نازعته نفسه إلى القنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم، فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل؛ ومثله كمثل حمار السوء الذي يفرح بخفة حمله، ويحزن إذا رأى العلف يؤثر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشره اللئيم أتعب قلبه وجسمه، والكرام أصبر نفوسا، كما أن اللئام أصبر أجسادا.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: فالواجب على العاقل: أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا جسده من القوت، لأن قوت الأجساد المطاعم، وقوت العقل الحكم، وكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب، وكذلك العقول إذا فقدت قوتها من الحكمة ماتت. والتقلب في الأمصار والاعتبار بخلق الله مما يزيد المرء عقلا، وإن عدم المال في تقلبه.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: العقل دواء القلوب، ومطية المجتهدين، وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمن في الدنيا، وعدته في وقوع النوائب، ومن عدم العقل لم يزده السلطان عزا، ولا المال يرفعه قدرا، ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذة دنياه، فكما أن أشد الزمانة الجهل، كذلك أشد الفاقة عدم العقل. والعقل والهوى متعاديان، فالواجب على المرء: أن يكون لرأيه مسعفا، ولهواه مسوفا. فإذا اشتبه عليه أمران تجنب أقربهما من هواه، لأن في مجانبة الهوى إصلاح السرائر، وبالعقل تصلح الضمائر.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: أفضل ذوي العقول منزلة أدومهم لنفسه محاسبة، وأقلهم عنها فترة. فبالعقل تعمر القلوب، كما أن بالعلم تستخرج الأحلام. وعمود السعادة العقل، ورأس العقل الاختيار، ولو صور العقل صورة لأظلمت معه الشمس لنوره، فقرب العاقل مرجو خيره على كل حال، كما أن قرب الجاهل مخوف شره على كل حال. ولا يجب للعاقل أن يغتم، لأن الغم لا ينفع، وكثرته تزري بالعقل، ولا أن يحزن؛ لأن الحزن لا يرد المرزئة، ودوامه ينقص العقل. والعاقل يحسم الداء قبل أن يبتلى به، ويدفع الأمر قبل أن يقع فيه، فإذا وقع فيه رضي وصبر.
حكمــــــة
قال علي: «لما أهبط الله آدم من الجنة أتاه جبريل، فقال: إني أمرت أن أخيرك في ثلاث، فاختر واحدة، ودع اثنتين، فقال آدم: وما الثلاث؟ قال: الحياء والدين والعقل، فقال آدم: فإني قد اخترت العقل». قال: «فقال جبريل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كـان، ثم عرج جبريل وقال: شأنكم».
حكمــــــة
قال أبو حاتم: من حسن عقله، وقبح وجهه، فقد أفقد فضائل نفسه قبائح وجهه، ومن حسن وجهه وقل عقله فقد أذهب محاسن وجهه نقائص نفسه، فلا يجب للعاقل أن يغتم إذا كان معدما، لأن العاقل المقل قد يرجى له الغنى، ولا يوثق للجاهل المكثر ببقاء ماله، ومال العاقل عقله وما قدم من صالح عمله. وآفة العقل: الصلف، والبلاء المؤذي، والرجاء المفرط ؛ لأن البلايا إذا تواترت عليه أهلكت عقله، والرجاء إذا تتابع عليه أبطره. والعدو العاقل خير للمرء من الصديق الجاهل.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب. والعاقل يكون حسن المآخذ في صغره، صحيح الاعتبار في صباه، حسن العفة عند إدراكه، رضي الشمائل في شبابه، ذا الرأي والحزم في كهولته، يضع نفسه دون غايته برتوة، ثم يجعل لنفسه غاية في كل شيء يقف عندها، لأن من جاوز الغاية في كل شيء صار إلى النقص.
حكمــــــة
رأس العقل: المعرفة بما يمكن كونه قبل أن يكون. والواجب على العاقل أن يجتنب أشياء ثلاثة، فإنها أسرع في إفساد العقل من النار في يبس العوسج: الاستغراق في الضحك، وكثرة التمني، وسوء التثبت ؛ لأن العاقل لا يتكلف ما لا يطيق، ولا يسعى إلا لما يدرك، ولا يعد إلا بما يقدر عليه، ولا ينفق إلا بقدر ما يستفيد، ولا يطلب من الجزاء إلا بقدر ما عنده من الغناء، ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عليه نفعة منه.
حكمــــــة
إن العاقل يبذل لصديقه نفسه وماله، ولمعرفته رفده ومحضره، ولعدوه عدله وبره، وللعام بشره وتحيته، ولا يستعين إلا بمن يحب أن يظفر بحاجته، ولا يحدث إلا من يرى حديثه مغنما، إلا أن يغلبه الاضطرار إليه، ولا يدعي ما يحسن من العلم، لأن فضائل الرجال ليست ما ادعوها ولكن ما نسبها الناس إليهم، ولا يبالي ما فاته من حطام هذه الدنيا، مع ما رزق من الحظ في العقل.
حكمــــــة
لا تكاد ترى عاقلا إلا موقرا للرؤساء، ناصحا للأقران، مواتيا للإخوان، متحرزا من الأعداء، لا حاسد للأصحاب، ولا مخادع للأحباب، ولا يتحرش بالأشرار، ولا يبخل في الغنى، ولا يشره في الفاقة، ولا ينقاد للهوى، ولا يجمح في الغضب، ولا يمرح في الولاية، ولا يتمنى ما لا يجد، ولا يكتنز إذا وجد، ولا يدخل في دعوى، ولا يشارك في مراء، ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضيا، ولا يشكو الوجع إلا عند من يرجو عنده البرء، ولا يمدح أحدا إلا بما فيه، لأن من مدح رجلا بما ليس فيه فقد بالغ في هجائه، ومن قبل المدح بما لم يفعله فقد استهدف للسخرية.
حكمــــــة
إن آفة العقل هى العجب، بل على العاقل أن يوطن نفسه على الصبر على جار السوء، [وعشير السوء]، وجليس السوء، فإن ذلك مما لا يخطئه على ممر الأيام. ولا يجب للعاقل أن يحب أن يسمى به؛ لأن من عرف بالدهاء حذر، ومن عقل العاقل دفن عقله ما استطاع، لأن البذر وإن خفي في الأرض أياما فإنه لا بد ظاهر في أوانه، وكذلك العاقل لا يخفى عقله وإن أخفى ذلك جهده. وأول تمكن المرء من مكارم الأخلاق هو لزوم العقل.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: أول خصال الخير للمرء في الدنيا: العقل، وهو من أفضل ما وهب الله لعباده، فلا يجب أن يدنس نعمة الله بمجالسة من هو بضدها قائم. والواجب على العاقل: أن يكون حسن الهدي، طويل الصمت، فإن ذلك من أخلاق الأنبياء، كما أن سوء السمت، وترك الصمت، من شيم الأشقياء. إن العاقل لا يطول أمله؛ لأن من قوي أمله ضعف عمله، ومن أتاه أجله لم ينفعه أمله.
حكمــــــة
إن العاقل يقيس ما لم ير من الدنيا بما قد رأى، ويضيف ما لم يسمع منها إلى ما قد سمع، وما لم يصب منها بما قد أصاب، وما بقي من عمره بما قد فني، وما لم ينل منها بما قد أوتي، ولا يتكل على المال وإن كان في تمام الحال، لأن المال يحل ويرتحل، والعقل يقيم ولا ينزعج، ولو أن العقل شجرة لكانت من أحسن الشجر، كما أن الصبر لو كان ثمرة لكانت من أكرم الثمر. والذي يزداد به العاقل من نماء عقله: هو التقرب من أشكاله، والتباعد من أضداده.
حكمــــــة
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل لزوم التوكل على من تكفل بالأرزاق؛ إذ التوكل هو نظام الإيمان، وقرين التوحيد، وهو السبب المؤدي إلى نفي الفقر ووجود الراحة، وما توكل أحد على الله - جل وعلا - من صحة قلبه، إلا كان الله - جل وعلا - بما ضمن من الكفالة أوثق عنده مما حوته يده، إلا لم يكله الله إلى عباده، وآتاه رزقه من حيث لا يحتسب.