1. فوائد من كتاب روضة العقلاء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا». رواه مسلم قال أبو حاتم : الواجب على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها؛ فإن أهون خصال الحسد هو ترك الرضا بالقضاء، وإرادة ضد ما حكم الله - جل وعلا - لعباده، ثم انطواء الضمير على إرادة زوال النعم عن المسلم، والحاسد لا تهدأ روحه، ولا يستريح بدنه، إلا عند رؤية زوال النعمة عن أخيه، وهيهات أن يساعد القضاء، ما للحساد في الأحشاء.
قال معاوية رضى الله عنه : كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد النعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها .
عن عمرو بن ميمون قال: رأى موسى رجلا عند العرش فغبطه لمكانه، فسأل عنه؟ فقال: ألا أخبرك بعمل كان يعمله ؟ كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يعق والديه، قال: وكيف يعق والديه؟ قال: يستسب لهما حتى يسبا، ولا يمشي بالنميمة .رواه الإمام أحمد في الزهد .
قال عمر ابن الخطاب رضى الله عنه : ما من أحد عنده من الله نعمة إلا وجدت له حاسدا، ولو كان المرء أقوم من القدح لوجدت له غامزا، وما ضرت كلمة لم يكن لها خواطب.
قال ابن سيرين: ما حسدت أحدا على شيء من الدنيا؛ لأنه إذا كان من أهل الجنة، فكيف أحسده على شيء من الدنيا، وهو يصير إلى الجنة؟ وإن كان من أهل النار، فكيف أحسده على شيء من الدنيا، وهو يصير إلى النار؟ .
قال يونس بن عبيد: أعجب شيء سمعت به في الدنيا ثلاث كلمات: قول ابن سيرين: ما حسدت أحدا على شيء قط، وقول مورق: قد دعوت الله بحاجة منذ أربعين سنة فما قضاها لي فما يئست منها، وقول حسان بن أبي سنان: ما شيء هو أهون من الورع إذا رابك شيء فدعه .
قال أبو حاتم : الحسد من أخلاق اللئام، وتركه من أفعال الكرام، ولكل حريق مطفىء، ونار الحسد لا تطفأ .
من الحسد يتولد الحقد، والحقد أصل الشر، ومن أضمر الشر في قلبه، أنبت له نباتا مرا مذاقه، نماؤه الغيظ، وثمرته الندم.
الحسد: هو اسم يقع على إرادة زوال النعم عن غيره، وحلولها فيه. فأما من رأى الخير في أخيه، وتمنى التوفيق لمثله، والظفر بحاله، وهو غير مريد لزوال ما فيه أخوه؛ فليس هذا بالحسد الذي ذم ونهي عنه .
لا يكاد يوجد الحسد إلا لمن عظمت نعمة الله عليه، فكلما أتحفه الله بترداد النعم، ازداد الحاسدون له بالمكروه والنقم .
عن يونس بن عبيد قال: ثلاثة كلهم قولا لا يتهم عليه، قال ابن سيرين: ما حسدت رجلا قط! إن كان رجلا من أولياء الله، فكيف أحسده على شيء من حطام الدنيا، وهو يصير إلى الجنة؟ وقال مؤرق العجلي: ما غضبت غضبا قط، فكان مني فيه ما أندم عليه إذا سكن غضبي. وقال حسان بن أبي سنان: ما شيء أهون علي من الورع إذا رابني شيء تركته.
قال أبو حاتم : لا يوجد من الحسود أمان أحرز من البعد منه؛ لأنه ما دام مشرفا على ما خصصت به دونه، لم يزده ذلك إلا وحشة وسوء ظن بالله، ونماء للحسد فيه. فالعاقل يكون على إماتة الحسد بما قدر عليه، أحرص منه على تربيته، ولا يجد لإماتته دواء أنفع من البعاد ، فإن الحاسد ليس يحسدك على عيب فيك، ولا على خيانة ظهرت منك، ولكن يحسدك بما ركب فيه من ضد الرضا بالقضاء.
عن حميد قال: قلت للحسن : يا أبا سعيد، هل يحسد المؤمن ؟ قال: ما أنساك بني يعقوب - لا أبا لك! - حيث حسدوا يوسف؟ ولكن غم الحسد في صدرك، فإنه لا يضرك، ما لم يعد لسانك، وتعمل به يدك .
إن الحاسد خصم معاند، لا يجب للعاقل أن يجعله حكما عند نائبة تحدث، فإنه إن حكم لم يحكم إلا عليه، وإن قصد لم يقصد إلا له، وإن حرم لم يحرم إلا حظه، وإن أعطى أعطى غيره، وإن قعد لم يقعد إلا عنه، وإن نهض لم ينهض إلا إليه، وليس للمحسود عنده ذنب إلا النعم التي عنده.
قال ابو حاتم - رحمه الله -: الواجب على العاقل الحازم أن يوطن نفسه على تحمل مقاساة ألم الحسد فيه، وأكثر ما يوجد الحسد من الجيران والإخوان؛ إذا تعروا عن الديانة ولزوم أسباب الصيانة، ثم من الأقارب؛ إذ الأقارب في الحقيقة عقارب، إلا من عصمه الله، وجاز به عن أمثالها، ثم في أهل الصناعة الذين لم يسلكوا مسلك ذوي الحجى، ولا راموا محل أولي النحل في مجانبة الدين في الأقوال، ولزوم ضده بالآمال .
إن الحاسد إذا رأى بأخيه نعمة بهت، وإن رأى به عثرة شمت، ودليل ما في قلبه مكمن على وجهه مبين، وما رأيت حاسدا سالم أحدا .
إن الحسد داعية إلى النكد، ألا ترى إبليس!! حسد آدم فكان حسده نكدا على نفسه، فصار لعينا بعدما كان مكينا ، ويسهل على المرء ترضي كل ساخط في الدنيا حتى يرضى، إلا الحسود؛ فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة التي حسد من أجلها.
قال بعض الحكماء: ألزم الناس للكآبة أربعة: رجل حديد، ورجل حسود، وخليط للأدباء وهو غير أديب، وحكيم محتقر للأقوام .
إن أبعد الناس من الدخول في دين الحق والنصيحة لأهله: جاهل ورث الضلالة عن أهله، ورأس أهل ملته، حظي فيهم بفضل الضلالة، ومعظم للدنيا، يرى بهجتها دائمة محبوبة، ويرى ما رجي من خير الآخرة قريبا، وما صرف من شرها بعيدا، ليس يعقد قلبه على الإيمان، ورجل خالط النساك وانصرف عنهم لحرصه وشرهه، ودامجهم على مكر وخديعة .
قال أبو حاتم : أحسن الناس عقلا من لم يحرد ، وأحضر الناس جوابا من لم يغضب. وسرعة الغضب : أنكى في العاقل من النار في يبس العوسج ؛ لأن من غضب زايله عقله، فقال ما سولت له نفسه، وعمل ما شانه وأرداه .
عن وهيب قال: مكتوب في الإنجيل: ابن آدم، اذكرني حين تغضب، أذكرك حين أغضب، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فلا تنتصر، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك .
قال أبو حاتم : سرعة الغضب من شيم الحمقى، كما أن مجانبته من زي العقلاء. والغضب بذر الندم، فالمرء على تركه قبل أن يغضب، أقدر على إصلاح ما أفسده به بعد الغضب .
كان عون بن عبد الله بن عتبة إذا غضب على غلامه قال: ما أشبهك بمولاك! أنت تعصيني وأنا أعصي الله، فإذا اشتد غضبه قال: أنت حر لوجه الله تعالى .
قال أبو حاتم : الواجب على العاقل إذا ورد عليه شيء بضد ما تهواه نفسه، أن يذكر كثرة عصيانه ربه ، وتواتر حلم الله عنه، ثم يسكن غضبه، ولا يزري بفعله بالخروج إلى ما لا يليق بالعقلاء في أحوالهم، مع تأمل وفور الثواب في العقبى بالاحتمال ونفي الغضب.
جاء غلام لابن عون. قال: فقأت عين الناقة. قال: بارك الله فيك. قال: قلت: فقأت عينها. فتقول: بارك الله فيك ؟ قال: أقول: أنت حر لوجه الله.
قال أبو حاتم : لو لم يكن في الغضب خصلة تذم إلا إجماع الحكماء قاطبة على أن الغضبان لا رأي له، لكان الواجب عليه الاحتيال لمفارقته بكل سبب . والغضبان لا يعذره أحد في طلاق ولا عتاق. ومن الفقهاء من عذر السكران في الطلاق والعتاق. والخلق مجبولون على الغضب والحلم معا، فمن غضب وحلم في نفس الغضب، فإن ذلك ليس بمذموم، ما لم يخرجه غضبه إلى المكروه من القول والفعل، على أن مفارقته في الأحوال كلها أحمد .
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني عملا إذا أنا عملته أحبني الله، وأحبني الناس؛ فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس» . رواه ابن ماجة . قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم في شرح الحديث (31): وقد اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين: إحداهما: الزهد في الدنيا، وأنه مقتض لمحبة الله لعبده. والثانية: الزهد فيما أيدي الناس، وأنه مقتض لمحبة الناس.
قال أبو حاتم : الواجب على العاقل ترك الطمع إلى الناس كافة بكمال الإياس عنهم، إذ الطمع فيما لا يشك في وجوده من الناس فقر حاضر، فكيف بما أنت شاك في وجوده أو عدمه؟.
عن سعد بن عمارة، أنه قال لابنه: يا بني، أظهر اليأس فإنه غنى، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر .
قال أبو حاتم : أشرف الغنى ترك الطمع إلى الناس، إذ لا غنى لذي طمع، وتارك الطمع يجمع به غاية الشرف، فطوبى لمن كان شعار قلبه الورع، ولم يعم بصره الطمع. ومن أحب أن يكون حرا فلا يهوى ما ليس له؛ لأن الطمع فقر، كما أن اليأس غنى، ومن طمع ذل وخضع، كما أن من قنع عف واستغنى .
عن ابن السماك قال : الرجاء حبل في قلبك، وقيد في رجلك، فأخرج الرجاء من قلبك، ينفك القيد من رجلك .
قال أبو حاتم : الطمع: غدة من قلب المرء له طرفان:أحدهما: القيد في رجليه. والآخر: الطبع على لسانه. فما دامت العقدة قائمة، لا تنفك رجلاه، ولا ينطق لسانه، فإذا أخرج الطمع من قلبه، انفك القيد عن رجليه، وزال الطبع عن لسانه، فسعى إلى ما يشاء ، وقال ما أحب. ودواء زوال الطمع من القلب: هو رؤية الأشياء من مكونها بدوام الخلوة، وترك الناس.
قال أبو حاتم : العاقل يجتنب الطمع إلى الأصدقاء فإنه مذلة، ويلزم اليأس عن الأعداء فإنه منجاة، وتركه مهلكة، والإياس هو بذر الراحة والعز، كما أن الطمع هو بذر التعب والذل، فكم من طامع تعب وذل، ولم ينل بغيته، وكم من آيس استراح وتعزز، وقد أتاه ما أمل وما لم يأمل.
عن الزبير بن العوام، أن رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلا، فيأتي بحزمة من حطب فيبيعها، خير لـه من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه» .رواه البخاري (2075)
قال أبو حاتم : الواجب على العاقل مجانبة المسألة على الأحوال كلها، ولزوم ترك التعرض؛ لأن الإفكار في العزم على السؤال يورث المرء مهانة في نفسه، ويحطه رتوة عن مرتبته، وترك العزم على الإفكار في السؤال يورث المرء عزا في نفسه، ويرفعه درجة عن مرتبته.
قال موسى بن طريف: إن الحاجة لتعرض لي إلى الرجل، فيخرج عزي من قلبي فأقطع الحاجة من ناحيته، فيرجع عزي إلى قلبي.
عن الشعبي: أن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال: من سأل الناس ليثري ماله، فإنما هو رضف من النار يلقمه، فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر .
عن حكيم بن قيس بن عاصم، عن أبيه، أنه أوصى بنيه عند موته، فقال: يا بني، إياكم ومسألة الناس؛ فإنها آخر كسب الرجل .
قال أبو حاتم : العاقل لا يسأل الناس شيئا فيردوه، ولا يلحف في المسألة فيحرموه، ويلزم التعفف والتكرم، ولا يطلب الأمر مدبرا، ولا يتركه مقبلا؛ لأن فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وإن من سأل غير المستحق حاجة، حط لنفسه مرتبتين، ورفع المسؤول فوق قدره .
قال مطرف بن عبد الله بن الشخير لابن أخيه: يا ابن أخ ، إذا كانت لك حاجة إلي فاكتب بها في رقعة، فإني أصون وجهك عن ذل السؤال وبذل الجهال .
قال أبو حاتم : أعظم المصائب سوء الخلق ، والمسألة من الناس، والهم بالسؤال نصف الهرم، فكيف المباشرة بالسؤال؟ ومن عزت عليه نفسه صغرت الدنيا في عينيه ، ولا ينبل الرجل حتى يعف عما في أيدي الناس، ويتجاوز عما يكون منهم ، والسؤال من الإخوان ملال، ومن غيرهم ضد النوال.
قال أبو حاتم : لا يجب للعاقل أن يبذل وجهه لمن يكرم عليه قدره، ويعظم عنده خطره، فكيف بمن يهون عليه رده، ولا يكرم عليه قدره؟ وأبعد اللقاء الموت، وأشد منه الحاجة إلى الناس دون السؤال ، وأشد منه التكلف بالسؤال؛ لأن السؤال إذا كان بنجاح الحاجة مقرونا، لم يخل من أن يكون فيه ذل السؤال، وإذا الحاجة لم تقض كان فيه ذلان موجودان: ذل السؤال، وذل الرد.
عن عبد الله عن مسعود قال: إن في طلب الرجل الحاجة إلى أخيه فتنة، إذا أعطاه حمد غير الذي أعطاه، وإن منعه ذم غير الذي منعه .
قال أبو حاتم : لو لم يكن في السؤال خصلة تذم إلا وجود التذلل في النفس عند الاهتمام بالسؤال وإبدائه ، لكان الواجب على العاقل أن لو اضطره الأمر إلى أن يستف الرمل ويمص النوى، أن لا يتعرض للسؤال أبدا، ما وجد إليه سبيلا، فأما من دفعه الوقت إلى ذلك، فسأل من يعلم أنه يقضي حاجته، أو ذا سلطان، لم يحرج في فعله ذلك، كما لم يحرج في القبول إذا أعطي من غير مسألة، ومن استغنى بالله أغناه الله، ومن تعزز به لم يفقره، كما أن من اعتز بالعبيد أذله الله .
عن معمر قال: قال أبو معاوية - رجل من ولد كعب بن مالك -: لقد رأيتني أنضح أول النهار، فأضرب آخر النهار على بطني بالمعول في المعدن، قال: قلت: لقد لقيت مؤونة، قال: أجل، إنا طلبنا الدرهم من أيدي الرجال ومن الحجارة، فوجدناها من الحجارة أسهل علينا.
عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» . رواه البخاري (6416) فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر في هذا الخبر: أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل؛ فكأنه أمره بالقناعة باليسير من الدنيا، إذ الغريب وعابر السبيل لا يقصدان في الغيبة الإكثار من الثروة، بل القناعة إليهما أقرب من الإكثار من الدنيا.
قال أكثم بن صيفي لابنه: يا بني، من لم يأس على ما فاته وزع بدنه، ومن قنع بما هو فيه قرت عينه .
قال أبو حاتم : من أكثر مواهب الله لعباده وأعظمها خطرا القناعة، وليس شيء أروح للبدن من الرضا بالقضاء، والثقة بالقاسم، ولو لم يكن في القناعة خصلة تحمد إلا الراحة وعدم الدخول في مواضع السوء لطلب الفضل، لكان الواجب على العاقل أن لا يفارق القناعة على حالة من الأحوال.
قال أبو حاتم : العاقل يعلم أن الأقسام لم توضع على قدر الأخطاء ، وأن من عدم القناعة لم يزده المال غنى، فتمكن المرء من التقليل من المال مع قلة الهم أهنأ من الكثير ذي التبعة ، والعاقل ينتقم من الحرص بالقنوع، كما ينتصر من العدو بالقصاص؛ لأن السبب المانع رزق العاقل، هو السبب الجالب رزق الجاهل.
قال أبو حاتم : القناعة تكون بالقلب: فمن غني قلبه غنيت يداه، ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه، ومن قنع لم يتسخط ، وعاش آمنا مطمئنا. ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائت نهاية لرغبته، والجد والحرمان كأنهما يصطرعان بين العباد.
قال أبو حاتم : من نازعته نفسه إلى القنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم، فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل؛ ومثله كمثل حمار السوء الذي يفرح بخفة حمله، ويحزن إذا رأى العلف يؤثر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشره اللئيم أتعب قلبه وجسمه، والكرام أصبر نفوسا، كما أن اللئام أصبر أجسادا .
قال أبـو عامر : قلت لعطاء بن أبي رباح : يا أبا محمد، ما أفضل ما أعطي العبد؟ قال: العقل عـن الله .
قال أبو حاتم: فالواجب على العاقل: أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا جسده من القوت، لأن قوت الأجساد المطاعم، وقوت العقل الحكم، وكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب، وكذلك العقول إذا فقدت قوتها من الحكمة ماتت. والتقلب في الأمصار والاعتبار بخلق الله مما يزيد المرء عقلا، وإن عدم المال في تقلبه .
قال أبو حاتم: العقل دواء القلوب، ومطية المجتهدين، وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمن في الدنيا، وعدته في وقوع النوائب، ومن عدم العقل لم يزده السلطان عزا ، ولا المال يرفعه قدرا، ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذة دنياه، فكما أن أشد الزمانة الجهل، كذلك أشد الفاقة عدم العقل . والعقل والهوى متعاديان ، فالواجب على المرء: أن يكون لرأيه مسعفا ، ولهواه مسوفا. فإذا اشتبه عليه أمران تجنب أقربهما من هواه، لأن في مجانبة الهوى إصلاح السرائر، وبالعقل تصلح الضمائر .
قال معاوية بن أبي سفيان لرجل من العرب عمر دهرا: أخبرني بأحسن شيء رأيته، قال: عقلا طلبت به مروءة مع تقوى الله وطلب الآخرة .
قال أبو حاتم: أفضل ذوي العقول منزلة أدومهم لنفسه محاسبة، وأقلهم عنها فترة. فبالعقل تعمر القلوب، كما أن بالعلم تستخرج الأحلام. وعمود السعادة العقل، ورأس العقل الاختيار، ولو صور العقل صورة لأظلمت معه الشمس لنوره، فقرب العاقل مرجو خيره على كل حال، كما أن قرب الجاهل مخوف شره على كل حال. ولا يجب للعاقل أن يغتم، لأن الغم لا ينفع، وكثرته تزري بالعقل، ولا أن يحزن؛ لأن الحزن لا يرد المرزئة ، ودوامه ينقص العقل. والعاقل يحسم الداء قبل أن يبتلى به، ويدفع الأمر قبل أن يقع فيه، فإذا وقع فيه رضي وصبر .
قال علي: «لما أهبط الله آدم من الجنة أتاه جبريل، فقال: إني أمرت أن أخيرك في ثلاث ، فاختر واحدة، ودع اثنتين، فقال آدم: وما الثلاث؟ قال: الحياء والدين والعقل، فقال آدم: فإني قد اخترت العقل». قال: «فقال جبريل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا : إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كـان، ثم عرج جبريل وقال: شأنكم» .
قال أبو حاتم: من حسن عقله، وقبح وجهه، فقد أفقد فضائل نفسه قبائح وجهه، ومن حسن وجهه وقل عقله فقد أذهب محاسن وجهه نقائص نفسه، فلا يجب للعاقل أن يغتم إذا كان معدما ، لأن العاقل المقل قد يرجى له الغنى، ولا يوثق للجاهل المكثر ببقاء ماله، ومال العاقل عقله وما قدم من صالح عمله. وآفة العقل: الصلف ، والبلاء المؤذي، والرجاء المفرط ؛ لأن البلايا إذا تواترت عليه أهلكت عقله، والرجاء إذا تتابع عليه أبطره. والعدو العاقل خير للمرء من الصديق الجاهل.
قال معاوية بن قرة : إن القوم يحجون ويعتمرون، ويجاهدون، ويصلون، ويصومون، وما يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم .
قال أبو حاتم: هذه لفظة جامعة، تشتمل على معاني شتى، فكما لا ينفع الاجتهاد بغير توفيق، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا السرور بغير أمن، كذلك لا ينفع العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عمل، وكما أن السرور تبع للأمن، والقرابة تبع للمودة ، كذلك المبرات كلها تبع للعقل.
إن عقول كل قوم على قدر زمانهم ، فالعاقل يختار من العمر أحسنه وإن قل، فإنه خير من الحياة النكدة وإن طالت، والعقل الموعى- غير المنتفع به -، كالأرض الطيبة الخراب .
إن العاقل لا يبتدىء الكلام إلا أن يسأل، ولا يكثر التمادي إلا عند القبول، ولا يسرع الجواب إلا عند التثبت . والعاقل لا يستحقر أحدا، لأن من استحقر السلطان أفسد دنياه، ومن استحقر الأتقياء أهلك دينه، ومن استحقر الإخوان أكسد مروءته، ومن استحقر العام أذهب صيانته .
إن العاقل لا يخفى عليه عيب نفسه ؛ لأن من خفي عليه عيب نفسه، خفيت عليه محاسن غيره، وإن من أشد العقوبة على المرء أن يخفى عليه عيبه، لأنه ليس بمنقلع عن عيبه من لم يعرفه، وليس بنائل محاسن الناس من لم يعرفها، وما أنفع التجارب للمبتدي والحال معا .
قال أبو حاتم: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب. والعاقل يكون حسن المآخذ في صغره، صحيح الاعتبار في صباه، حسن العفة عند إدراكه، رضي الشمائل في شبابه، ذا الرأي والحزم في كهولته، يضع نفسه دون غايته برتوة ، ثم يجعل لنفسه غاية في كل شيء يقف عندها، لأن من جاوز الغاية في كل شيء صار إلى النقص.
لا ينفع العقل إلا بالاستعمال، كما لا تنفع الأعوان إلا عند الفرصة، ولا ينفع الرأي إلا بالانتخال ، كما لا تتم الفرصة إلا بحضور الأعوان. ومن لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه أخاف أن يكون حتفه في أقرب الأشياء إليه .
رأس العقل: المعرفة بما يمكن كونه قبل أن يكون. والواجب على العاقل أن يجتنب أشياء ثلاثة، فإنها أسرع في إفساد العقل من النار في يبس العوسج: الاستغراق في الضحك ، وكثرة التمني، وسوء التثبت ؛ لأن العاقل لا يتكلف ما لا يطيق، ولا يسعى إلا لما يدرك، ولا يعد إلا بما يقدر عليه، ولا ينفق إلا بقدر ما يستفيد، ولا يطلب من الجزاء إلا بقدر ما عنده من الغناء ، ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عليه نفعة منه.
إن العاقل يبذل لصديقه نفسه وماله، ولمعرفته رفده ومحضره ، ولعدوه عدله وبره، وللعام بشره وتحيته ، ولا يستعين إلا بمن يحب أن يظفر بحاجته، ولا يحدث إلا من يرى حديثه مغنما، إلا أن يغلبه الاضطرار إليه ، ولا يدعي ما يحسن من العلم، لأن فضائل الرجال ليست ما ادعوها ولكن ما نسبها الناس إليهم، ولا يبالي ما فاته من حطام هذه الدنيا، مع ما رزق من الحظ في العقل.
قال أبو حاتم : كفى بالعاقل فضلا - وإن عدم المال - بأن تصرف مساوىء أعماله إلى المحاسن، فتجعل البلادة منه علما ، والمكر عقلا، والهذر بلاغة، والحدة ذكاء، والعي صمتا ، والعقوبة تأديبا، والجرأة عزما، والجبن تأنيا، والإسراف جودا، والإمساك تقديرا .
لا تكاد ترى عاقلا إلا موقرا للرؤساء، ناصحا للأقران، مواتيا للإخوان، متحرزا من الأعداء، لا حاسد للأصحاب، ولا مخادع للأحباب، ولا يتحرش بالأشرار، ولا يبخل في الغنى، ولا يشره في الفاقة، ولا ينقاد للهوى، ولا يجمح في الغضب، ولا يمرح في الولاية، ولا يتمنى ما لا يجد، ولا يكتنز إذا وجد، ولا يدخل في دعوى، ولا يشارك في مراء، ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضيا، ولا يشكو الوجع إلا عند من يرجو عنده البرء، ولا يمدح أحدا إلا بما فيه، لأن من مدح رجلا بما ليس فيه فقد بالغ في هجائه ، ومن قبل المدح بما لم يفعله فقد استهدف للسخرية .
إن العاقل يكرم على غير مال كالأسد يهاب وإن كان رابضا . وكلام العاقل يعتدل اعتدال جسد الصحيح، وكلام الجاهل يتناقض كاختلاط جسد المريض.
إن آفة العقل هى العجب ، بل على العاقل أن يوطن نفسه على الصبر على جار السوء، [وعشير السوء]، وجليس السوء، فإن ذلك مما لا يخطئه على ممر الأيام . ولا يجب للعاقل أن يحب أن يسمى به؛ لأن من عرف بالدهاء حذر، ومن عقل العاقل دفن عقله ما استطاع ، لأن البذر وإن خفي في الأرض أياما فإنه لا بد ظاهر في أوانه، وكذلك العاقل لا يخفى عقله وإن أخفى ذلك جهده. وأول تمكن المرء من مكارم الأخلاق هو لزوم العقل.
قال شعبة : عقولنا قليلة، فإذا جلسنا مع من هو أقل عقلا منا ذهب ذلك القليل، وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلا منه فأمقته .
قال أبو حاتم: أول خصال الخير للمرء في الدنيا: العقل، وهو من أفضل ما وهب الله لعباده، فلا يجب أن يدنس نعمة الله بمجالسة من هو بضدها قائم. والواجب على العاقل: أن يكون حسن الهدي ، طويل الصمت، فإن ذلك من أخلاق الأنبياء ، كما أن سوء السمت، وترك الصمت، من شيم الأشقياء. إن العاقل لا يطول أمله؛ لأن من قوي أمله ضعف عمله، ومن أتاه أجله لم ينفعه أمله .
إن العاقل لا يقاتل من غير عدة، ولا يخاصم بغير حجة، ولا يصارع بغير قوة، لأن بالعقل تحيا النفوس، وتنور القلوب، وتمضي الأمور، وتعمر الدنيا.
إن العاقل يقيس ما لم ير من الدنيا بما قد رأى، ويضيف ما لم يسمع منها إلى ما قد سمع، وما لم يصب منها بما قد أصاب، وما بقي من عمره بما قد فني، وما لم ينل منها بما قد أوتي، ولا يتكل على المال وإن كان في تمام الحال، لأن المال يحل ويرتحل، والعقل يقيم ولا ينزعج ، ولو أن العقل شجرة لكانت من أحسن الشجر، كما أن الصبر لو كان ثمرة لكانت من أكرم الثمر. والذي يزداد به العاقل من نماء عقله: هو التقرب من أشكاله، والتباعد من أضداده .
إن العاقل لا يخيف أحدا أبدا ما استطاع، ولا يقيم على خوف وهو يجد منه مذهبا، فإذا خاف على نفسه الهوان طابت نفسه عما يملك من الطارف والتالد ، مع لزوم العفاف، إذ هو قطب شعب العقل.
قال أبو حاتم : الواجب على العاقل لزوم التوكل على من تكفل بالأرزاق؛ إذ التوكل هو نظام الإيمان ، وقرين التوحيد، وهو السبب المؤدي إلى نفي الفقر ووجود الراحة، وما توكل أحد على الله - جل وعلا - من صحة قلبه، إلا كان الله - جل وعلا - بما ضمن من الكفالة أوثق عنده مما حوته يده ، إلا لم يكله الله إلى عباده، وآتاه رزقه من حيث لا يحتسب.