بابُ مَن يُسلَّمُ عليه ومن لا يُسلَّمُ عليه ومَنْ يُردّ عليه ومن لا يُرَدّ عليه
فصل: وأما الصبيان فالسنّة أن يسلِّم عليهم.
روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه، أنه مرّ على صبيانٍ فسَّلمَ عليهم وقال: كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يفعله. وفي رواية لمسلم عنه: أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ على غِلمانٍ فسلَّم عليهم.
وروينا في سنن أبي داود وغيره، بإسناد الصحيحين، عن أنس، أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم مرّ على غلمانٍ يَلعبون فسلَّم عليهم ورويناهُ في كتاب ابن السنيّ وغيره، قال فيه فقال: " السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا صِبْيانُ " .
فصل: وأما المبتدعُ وَمَنْ اقترف ذنباً عظيماً ولم يَتُبْ منه، فينبغي أن لا يسلِّم عليهم ولا يردّ عليهم السلام
كذا قاله البخاري وغيره من العلماء. واحتجّ الإمام أبو عبد اللّه البخاري في صحيحه في هذه المسألة:
بما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، في قصة كعب بن مالك رضي اللّه عنه حين تخلَّف عن غزوة تبوك هو ورفيقان له، فقال: ونهى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كلامنا، قال: وكنتُ آتي رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأُسلِّم عليه فأقولُ: هل حرّكَ شَفتيه بردّ السلام أم لاقال البخاري: وقال عبدُ اللّه بن عمرو: لا تسلِّموا على شَرَبَة الخمر. قلتُ: فإن اضّطُر إلى السلام على الظلمة، بأن دخل عليهم وخاف ترتب مفسدة في دينه أو دنياه أو غيرهما إن لم يسلّم، سلّم عليهم. قال الإِمام أبو بكر بن العربي: قال العلماء: يسلِّم، وينوي أن السلام اسم من أسماء اللّه تعالى، المعنى: اللّه عليكم رقيب.
فرع : فيما يقولُ إذا عَادَ ذَميّاً. اعلم أن أصحابنا اختلفوا في عيادة الذميّ
فاستحبَّها جماعة ومنعها جماعة؛ وذكر الشاشي الاختلاف ثم قال: الصوابُ عندي أن يُقال: عيادة الكافر في الجملة جائزة، والقربة فيها موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة، قلت: هذا الذي ذكره الشاشيُّ حسن.
فقد روينا في صحيح البخاري، عن أنس رضي اللّه عنه قال: كان غلامٌ يهوديٌّ يخدُم النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فمرضَ، فأتاه النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم يعودُه، فقعدَ عند رأسه، فقال له: " أسْلِمْ " فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطعْ أبا القاسم، فأسلم، فخرجَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول: " الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ " .
وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن المسيِّب بن حَزْن والد سعيد بن المسيِّب رضي اللّه عنه قال: لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا عَمّ! قُلْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ " وذكر الحديث بطوله.
قلتُ: فينبغي لعائد الذميّ أن يرغّبه في الإِسلام، ويبيِّن له محاسنَه، ويحثَّه عليه، ويحرّضه على معاجلته قبل أن يصيرَ إلى حال لا ينفعه فيها توبته، وإن دعا له دعا بالهداية ونحوها.
فرع : إذا مرّ واحدٌ على جماعة فيهم مسلمون أو مسلم وكفّار
فالسنّة أن يُسلِّم عليهم ويقصد المسلمين أو المسلم.
روينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أُسامةَ بن زيد رضي اللّه عنهما؛ أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم مرَّ على مجلسٍ فيه أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود، فسلَّم عليهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.
فصل
وأما أهل الذمّة فاختلف أصحابُنا فيهم، فقطعَ الأكثرون بأننه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام. وقال آخرون: ليس هو بحرام، بل هو مكروه، فإن سلَّمُوا هم على مسلم قال في الردّ: وعليكم، ولا يزيدُ على هذا.
وحكى أقضى القضاة الماورديّ وجهاً لبعض أصحابنا، أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام، لكنْ يقتصرُ المسلِّم على قوله: السلام عليك، ولا يذكرُه بلفظ الجمع.
وحكى الماوردي وجهاً أنه يقول في الردّ عليهم إذا ابتدأوا: وعليكم السلام، ولكن لا يقول ورحمة اللَّه، وهذان الوجهان شاذان ومردودان.
روينا في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: " لاتَبْدأوا اليَهُودَ وَلا النَّصَارَى بالسَّلامِ، فإذَا لقيتُمْ أحَدَهُمْ في طَريقٍ فاضْطَرُوهُ إلى أضْيَقِهِ " .
وروينا في صحيح البخاري ومسلم، عن أنس رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أهْلُ الكِتابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ " .
وروينا في صحيح البخاري، عن ابن عمرَ رضي اللّه عنهما؛ أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال: " إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ فإنَّمَا يَقُولُ أحَدُهُم: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ: وَعَلَيْكَ " وفي المسألة أحاديث كثيرة بنحو ما ذكرنا، واللّه أعلم.
قال أبو سعد المتولي: ولو سلَّم على رجل ظنَّه مسلماً فبان كافراً يستحَبّ أن يستردّ سلامَه فيقول له: رُدّ عليّ سلامي؛ والغرض من ذلك أن يوحشه ويظهرَ له أنه ليس بينهما ألفة. ورُوي أن ابن عمر رضي اللّه عنهما سلَّم على رجلٍ، فقيل إنه يهودي، فتبعه وقال له: ردّ عليّ سلامي
قلت: وقد روينا في موطأ مالك رحمه اللّه أن مالكاً سُئل عمّن سلَّم على اليهوديّ أو النصراني هل يستقيله ذلك؟ فقال: لا، فهذا مذهبُه. واختاره ابن العربي المالكي.
قال أبو سعد: لو أراد تحية ذميّ فعلَها بغير السلام بأن يقول: هداك اللّه، أو أنعم اللّه صباحك. قلت: هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به إذا احتاج إليه فيقول: صُبِّحْتَ بالخير أو بالسعادة أو بالعافية، أو صبَّحَك اللّه بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرّة أو ما أشبه ذلك. وأما إذا لم يحتج إليه فالاختيار أن لا يقول شيئاً، فإن ذلك بسطٌ له وإيناس وإظهار صورة ودّ، ونحن مأمورون بالإِغلاظ عليهم ومنهيّون عن ودّهم فلا نظهره، واللّه أعلم.
ذكـــــر
اعلم أنَّ الرجلَ المسلمَ الذي ليس بمشهور بفسق ولا بدعة يُسَلِّم ويُسَلَّم عليه، فيُسنّ له السلام، ويجب الردّ عليه. قال أصحابنا: والمرأةُ مع المرأة كالرجل مع الرجل. وأما المرأة مع الرجل؛ فقال الإِمام أبو سعد المتوليّ: إن كانت زوجته أو جاريتَه أو محرَماً من محارمه، فهي معه كالرجل، فيستحبّ لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر ردّ السلام عليه؛ وإن كانت أجنبيةً، فإن كانت جميلةً يُخاف الافتتان بها لم يُسَلِّم الرجل عليها، ولو سلَّمَ لم يجز لها ردّ الجواب، ولم تسلّم هي عليه ابتداءً، فإن سلَّمتْ لم تستحق جواباً فإن أجابها كُره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز أن تسلِّم على الرجل، وعلى الرجل ردّ السلام عليها؛ وإذا كانت النساء جمعاً فيُسلِّم عليهنَّ الرجل، أو كان الرجالُ جمعاً كثيراً فسلَّموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه ولا عليهنّ ولا عليها أو عليهم فتنة.
روينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرها، عن أسماءَ بنت يزيدَ رضي اللّه عنها قالت: مرَّ علينا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم في نسوة فسلَّم علينا. قال الترمذي: حديث حسن. وهذا الذي ذكرته لفظ رواية أبي داود. وأما رواية الترمذي ففيها عن أسماء: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ في المسجد يوماً وعصبةٌ من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم.
وروينا في كتاب ابن السنيّ، عن جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنه: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّ على نسوة فسلّم عليهنّ.
وروينا في صحيح البخاري عن سهل بن سعدٍ رضي اللّه عنه، قال: كانتْ فينا امرأةٌ. وفي رواية: كانتْ لنا عجوزٌ تأخذُ من أصول السِّلق فتطرحُه في القِدْر وتكركرُ حَبَّاتٍ من شعير، فإذا صلّينا الجمعة انصرفنا نُسلِّم عليها فتقدمه إلينا. قلت: تكركر معناه: تطحن.
وروينا في صحيح مسلم، عن أُمّ هانىء بنت أبي طالب رضي اللّه عنها قالت: أتيتُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يومَ الفتح وهو يغتسلُ، وفاطمة تسترُه، فسلَّمتُ. وذكرت الحديث.