الفرق بين أهل السماع و أهل الصلاة
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
فنحن نناشد أهل السماع بالله الذي لا إله إلا هو، هل يجدون في سماعهم مثل هذا الذوق أو شيء منه؟ بل نناشدهم بالله، هل يدعهم السماع يجدون بعض هذا الذوق في صلاتهم أو جزءاً يسيراً منها؟ بل هل نَشَقُوا من هذا الذوق رائحة، أو شموا منه شمة قط؟ و نحن نحلف، عنهم أن ذوقهم في صلاتهم و سماعهم صد هذا الذوق، و مشربهم ضد هذا المشرب. و لولا خشية الإطالة لذكرنا نُبذة من ذوقهم في سماعهم، تدلُّ على ما ورائها. و لا يخفى على من له أدنى عقل، و حياة قلب، الفرق بين ذوق الآيات، و ذوق الأبيات، و بين ذوق القيام بين يدي رب العالمين، و القيام بين يدي المغنين، و بين ذوق اللذة و النعيم بمعاني ذكر الله تعالى و التلذذ بكلامه، و ذوق معاني الغناء، و التطريب الذي هو رقية الزنا، و قرآن الشيطان، و التلذذ بمضمونها فما اجتمع و الله الأمران في قلب إلا و طرد أحدهما الآخر، و لا تجتمع بنت رسول الله و بنت عدو الله عز و جل عند رجلٍ أبداً، و الله سبحانه و تعالى أعلم.
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
فمتى تجئ الأذواق الصحيحة المستقيمة إلى قلوب قد انحرفت أشد الانحراف عن هدي نبيها صلى الله عليه و سلم، و تركت ما كان عليه هو و أصحابه و السلف الصالح، فإنهم كانوا يجدون الأذواق الصحيحة المتصلة بالله عز و جل في الأعمال: الصلاة المشروعة، و في قراءة القرآن، و تدبره و استماعه، و أجر ذلك، و في مزاحمة العلماء بالركب، و في الجهاد في سبيل الله، و في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و في الحب في الله و البغض فيه، و توابع ذلك، فصار ذوق المتأخرين ـ إلا من عصمه الله ـ في اليراع و الدف، و المواصيل، و الأغاني المطربة من الصور الحسان و الرقص، و الضجيج، و ارتفاع الأصوات، و تعطيل ما يحبه الله، و يرضاه من عبادته المخالفة لهوى النفس.فشتَّان بين ذوق الألجان و ذوق القرآن و بين ذوق العود و الطنبور، و ذوق المؤمنين و النُّور، و بين ذوق الزَّمر و ذوق الزمر، و بين ذوق الناي و ذوق { اقتربت السَّاعة و انشق القمر } [القمر: 01] و بين ذوق المواصيل و الشبَابات و ذوق يس و الصافات، و بين ذوق غناء الشعر و ذوق سورة الشعراء، و بين ذوق سماع المكاء و التصدية و ذوق الأنبياء. و بين الذوق على سماع تُذكر فيه العيون السود و الخصور و القدود، و ذوق سماع سورة يونس و هود، و بين ذوق الواقفين في طاعة الشيطان على أقدامهم صواف، و ذوق الواقفين في خدمة الرحمن في سورة الأنعام و الأعراف، و بين ذوق الواجدين على طرب المثالث و المثاني، و ذوق العارفين عند استماع القرآن العظيم و السبع المثاني، و بين ذوق أولى الأقدام الصفات في حظيرة سماع الشيطان، و ذوق أصحاب الأقدام الصافات بين يدي الرحمن. سبحان الله هكذا تنقسم و المواجيد، و يتميز خُلق المطرودين مِن خُلق العبيد، و سبحان الممد لهؤلاء و هؤلاء من عطائه و المفارق بينهم في الكرامة يوم القيامة، فوالله لا يجتمع محبو سماع قرآن الشيطان و محب سماع كلام الرحمن في قلب رجل واحد أبداً. كما لا تجتمع بنت عدو الله و بنت رسول الله عند رجل واحد أبداً. أنت القتيل بكلِّ مَن أحببته ** فاختر لنفسك في الهوى مَن تصطفي
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
سماع أهل الحق كان أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنهم، إذا اجتمعوا و اشتاقوا إلى حاد يحدو بهم، ليطيب لهم السير، و محرك يحرك قلوبهم إلى محبوبهم، أمروا واحدا منهم يقرأ و الباقون يستمعون، فتطمئن قلوبهم، و تفيض عيونهم و يجدون من حلاوة الإيمان أضعاف ما يجده السماعاتية من حلاوة السماع. و كان عمر بن الخطاب إذا جلس عنده أبو موسى يقول: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيأخذ أبو موسى، في القراءة، و تعمل تلك الأقوال في قلوب القوم عملها، و كان عثمان بن عفان يقول: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله. و أي و الله، كيف تشبع من كلام محبوبهم و فيه نهاية مطلوبهم؟ و كيف تشبع من القرآن؟ و إنما فتحت به لا بالغناء و الألحان؟! و إذا مَرضنا تداوينا بذكركُم ** فإن تركناه زادَ السقم و المرض و أصحاب الطرب و الألحان عن هذا كله بمعزل، هم في وادي و القوم في واد. و الضبُّ و النُون قد يرجى التقاؤهما ** و ليس يُرجى التقاء الوحي و القصب فأين حال من يطرب على سماع الغناء و القصب بين المثالث و المثاني و ذوقه و وجده إلى حال من يجد لذة السماع و روح الحال، و ذوق طعم الإيمان إذا سمع في حال إقبال قلبه على الله و أنسه به و شوقه إلى لقائه، و استعداده لفهم مراده من كلامه و تنزيله على حاله و أخذه بحضه الوافر منه قارئاً مجيداص حسن الصوت و الأداء يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {طه ما أنزلنا عليك القُرآن لتشقى إلاَّ تذكرةً لمن يخشَى تنزيلاً ممَّن خلقَ الأرضَ و السَّماوات العُلى الرَّحمَن على العرش استوى له ما في السَّماوات و ما في الأرضِ و ما بينهما و ما تحت الثَّرى و إن تجهر بالقولِ فإنَّه يَعلَمُ السِّرَّ و أخفى}[طه:1-7]. و أمثال هذا النمط من القرآن الذي إذا صادف حياة في قلب صادق قد شمَّ رائحة المحبة و ذاق حلاوتها، فقلبه لا يشبع من كلام محبوبه و لا يقر و لا يطمئن إلا به، كان موقعه من قلبه كموقع وصال الحبيب بعد طول الهجران، وحلَّ منه محلَّ الماء البارد في شدَّة الهجير من الظمأ، فما ظنُّك بأرض حياتها بالغيث أصابها وابله، أحوج ما كانت إليه، فأنبت فيها من كلِّ زوج بهيج، قائم على سوقه يشكره و يثني عليه. فهل يستوي عند الله تعالى و ملائكته و رسوله و الصادقين من عباده، سماع هذا و سماع هذا، و ذوق هذا و ذوق هذا، فأهل سماع الغناء عبيد نفوسهم الشهوانية، يعلمون السماع طلباً للذة النفس و نيلاً لحظها الباطل، فمن لم يميز بين هذين السماعين، و الذوقين فليسأل ربه بصدق، رغبته إليه أن يحيي قلبه الميت، و أن يجعل له نوراً يستضيء به في ظلمات جهله، و أن يجعل له فرقاناً فيفرِّق به بين الحق و الباطل، فإنه قريب مجيب.
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
التنبيه على نكتة خفيَّةٍ من نكت السَّماع و في السماع نكتة حقيقية أصلية يعرفها أهلها، و يجدونها بعد انقضائه و هي أنه قد علم الذائقون منهم أنه ما وجد صادق في السماع الشعري وجداً، و تحرك به إلا وجد بعد انقضائه و مفارقة المجلس قبضاً على قلبه، و نوع استيحاش، و أحس ببعده و انقطاعاً و ظلمة، و لا يتفطن لهذا الأمر إلا من في قلبه أدنى حياة و إلا: فما لجرح بميت إيلام، و لو سئل عن سبب هذا لم يعرفه ؛ لأن قلبه مغمور في السماع و ذوقه الباطل ؛ فهو غافل عن استخراج آلامه التي طرقته فيه، و عن أسباب فساد القلب منه، و لو وزنه بالميزان العدل لعلِمَ من أين أتى، فاسمع الآن السبب الذي لأجله نشأ منه هذا القبض، و هذه الوحشة، و البعد. لما كان السماع الشعري أعلى أحواله أن يكون ممتزجاً بحق و باطل، و مركباً من شهوة و شبهة، و أحسن أحوال صاحبه أن تأخذ الروح حظها المحمود منه، ممتزجاً بحظ النفس، و الشيطان و الهوى فهو غير صافٍ، و لا خالص، فامتزج نصيب الصادق فيه من الرحمن بنصيب الشيطان، و اختلط حظ القلب بحظ النفس، هذا أحسن أحواله، فإنه مؤسس على حظ النفس و الشيطان و هو فيه بذاته و هو نصيبه من الرحمن فهو فيه بالعرض، لوم يوضع عليه و لا أسس عليه فاختلط في وادي القلب الماء اليسير الصافي بالماء الكثير الكدر، و غلب الخبيث في الطيب، أو تجاورا و التقت الواردات الرحمانية، و الواردات الشيطانية. و المستمع الصاد لغلبة صدقه، و ظهور أحكام القلب فيه يخفى عليه ذلك الوقت أثر الكدر و لا يشعر به سيَّما مع سُكر الروح به، و غيبتها عن سوى مطلوبه، فلما أفاق من سكره، و فارق لذة السماع و طيبه، وجد اللوث و الكدر الذي هو حظ النفس، و الشيطان، و أثر جثوم الشيطان على قلبه فأثر فيه ذلك الأثر قبضاً، و وحشة، و أحس به بعداً و كلما كان أصدق و أتم طلباً كان وجوده لهذا أتم و أظهر فإن استعداده هو بحياة قلبه يوجب له الاحساس بهذا، و لا يدري من أين أتى، و هذا له في الشاهد نظائر و أشباه منها: إنَّ الرجل إذا اشتغل قلبه اشتغالاً تاماً بمشاهدة محبوب أو رؤية مخوف، أو لذةٍ مَلَكت عليه حسّه و قلبه، إذا أصابه في تلك الحالة ضربٌ، أو لسعٌ أو سببٌ مؤلم، فأنه لا يكاد يشعر به، فإذا فارقته تلك الحالة وجد منه ألم حتى كأنه أصابه تلك الساعة، فإنه كان في مانع يمنعه من الإحساس بالألم فلما زال المانع أحس بالألم.