فصل
فصل
أسرار الصَّلاة للإمَام العلامَة ابن قيِّم الجَوزيَّة
التنبيه على نكتة خفيَّةٍ من نكت السَّماع و في السماع نكتة حقيقية أصلية يعرفها أهلها، و يجدونها بعد انقضائه و هي أنه قد علم الذائقون منهم أنه ما وجد صادق في السماع الشعري وجداً، و تحرك به إلا وجد بعد انقضائه و مفارقة المجلس قبضاً على قلبه، و نوع استيحاش، و أحس ببعده و انقطاعاً و ظلمة، و لا يتفطن لهذا الأمر إلا من في قلبه أدنى حياة و إلا: فما لجرح بميت إيلام، و لو سئل عن سبب هذا لم يعرفه ؛ لأن قلبه مغمور في السماع و ذوقه الباطل ؛ فهو غافل عن استخراج آلامه التي طرقته فيه، و عن أسباب فساد القلب منه، و لو وزنه بالميزان العدل لعلِمَ من أين أتى، فاسمع الآن السبب الذي لأجله نشأ منه هذا القبض، و هذه الوحشة، و البعد. لما كان السماع الشعري أعلى أحواله أن يكون ممتزجاً بحق و باطل، و مركباً من شهوة و شبهة، و أحسن أحوال صاحبه أن تأخذ الروح حظها المحمود منه، ممتزجاً بحظ النفس، و الشيطان و الهوى فهو غير صافٍ، و لا خالص، فامتزج نصيب الصادق فيه من الرحمن بنصيب الشيطان، و اختلط حظ القلب بحظ النفس، هذا أحسن أحواله، فإنه مؤسس على حظ النفس و الشيطان و هو فيه بذاته و هو نصيبه من الرحمن فهو فيه بالعرض، لوم يوضع عليه و لا أسس عليه فاختلط في وادي القلب الماء اليسير الصافي بالماء الكثير الكدر، و غلب الخبيث في الطيب، أو تجاورا و التقت الواردات الرحمانية، و الواردات الشيطانية. و المستمع الصاد لغلبة صدقه، و ظهور أحكام القلب فيه يخفى عليه ذلك الوقت أثر الكدر و لا يشعر به سيَّما مع سُكر الروح به، و غيبتها عن سوى مطلوبه، فلما أفاق من سكره، و فارق لذة السماع و طيبه، وجد اللوث و الكدر الذي هو حظ النفس، و الشيطان، و أثر جثوم الشيطان على قلبه فأثر فيه ذلك الأثر قبضاً، و وحشة، و أحس به بعداً و كلما كان أصدق و أتم طلباً كان وجوده لهذا أتم و أظهر فإن استعداده هو بحياة قلبه يوجب له الاحساس بهذا، و لا يدري من أين أتى، و هذا له في الشاهد نظائر و أشباه منها: إنَّ الرجل إذا اشتغل قلبه اشتغالاً تاماً بمشاهدة محبوب أو رؤية مخوف، أو لذةٍ مَلَكت عليه حسّه و قلبه، إذا أصابه في تلك الحالة ضربٌ، أو لسعٌ أو سببٌ مؤلم، فأنه لا يكاد يشعر به، فإذا فارقته تلك الحالة وجد منه ألم حتى كأنه أصابه تلك الساعة، فإنه كان في مانع يمنعه من الإحساس بالألم فلما زال المانع أحس بالألم.